المصاعب الجمّة للمالية العمومية بين الإنكار والتهوين والتهويل: العقل أولا .. والعقل أخيرا

أصبح من نافل القول التذكير بأن تونس تعيش أزمة مالية عمومية مند سنة 2013، وهي السنة التي استنجدت فيها حكومة «الترويكا» بصندوق النقد الدولي

بعد عقدين من استغناء البلاد عن هذه الاتفاقيات الممدة والسبب واضح منذ 2013: ازدياد هام لنفقات الدولة مقابل مواردها الذاتية بما اضطررنا إلى الاقتراض ثم إلى مزيد الاقتراض.
للتذكير لقد كانت نسبة الدين العمومي من الناتج المحلي الإجمالي في حدود %40 سنة 2010 وستناهز %83 حسب توقعات مرسوم قانون المالية لسنة 2022..ويبقى الأهم في ذلك أن حاجيات الاقتراض الداخلي والخارجي والتي تساوي تقريبا 20 مليار دينار هي أكثر من ثلث الميزانية المقررة .
ولنتذكر أيضا أن حكومة المهدي جمعة قد أعلنت منذ افريل 2014 انه لو استمر الأمر على ما هو عليه (أي دون القيام بإصلاحات هيكلية) ستكون الدولة عاجزة عن الإيفاء بتعهداتها ومن بينها رواتب الموظفين وجرايات المتقاعدين .
كل هذا لنقول بأن أزمة المالية العمومية ليست وليدة اليوم ولا الأمس القريب وان كل الحكومات المتعاقبة قد أعلنت عن نيتها بـ«ايقاف النزيف» لكن لم تقدر أية حكومة على هذا بل تواصل النزيف تدريجيا وفي كل سنة يكون الوضع أعسر ويتم الإتمام المحاسبي للميزانية على حساب الاستثمار العمومي وهذه كارثة الكوارث لأننا نهدد في العمق بهذا فرص خلق الثروة والخروج من هذه الدوامة ..

لقد عشنا خلال هذه العشرية تقريبا بين من يهوّل الأمر إلى حد التلميح او التصريح بان الدولة ستفلس بعد أشهر قليلة ومن يهوّن من الأمر إلى درجة تخدير الرأي العام بالتأكيد المستمر على أن الوضعية تحت السيطرة ولا خطر أمامنا ..
ينبغي أن نعترف بأننا أضفنا قطبا ثالثا للتهوين والتهويل وهو الإنكار واعتبار أن أزمة مالية العمومية مفتعلة تحركها بعض اللوبيات الخفية لتتحكم في الدولة أو أنها فقط نتيجة نهب ثروات البلاد من قبل الفاسدين ماليا وسياسيا وانه يكفي إصدار مرسوم «الصلح الجزائي» حتى يكون بلسم كل جراحاتنا .
صحيح انه في خضم كل هذا انطلقت أصوات عديدة بالعلم والعقل وسعت إلى تشخيص دقيق لدواعي هذه الأزمة المزمنة واقترحت حلولا لذلك، لكن هذه الأصوات لم تنل الحظوة الكاملة لا عند الحكام ولا عند الرأي العام الذي يشتكي أساسا من غلاء المعيشة وتفشي البطالة وغياب التنمية دون أن يربط ذلك بأزمة المالية العمومية المزمنة .

يمكن أن نشبه أزمة المالية العمومية ببعض الأمراض التي تلم بالجسم وتستمر معه لفترة طويلة دون أن تظهر أعراضا خطيرة مهددة للحياة ولكن الذي ينتبه لوجود المرض في بواكيره الأولى ويقاومه بصفة جدية بالدواء وخاصة بتغيير العادات اليومية السيئة ،هذا الشخص بإمكانه التدارك السريع ثم التحصن الجدّي من المرض. أما من يترك الوضع يتردّى يوما بعد يوم بحجة أن «الأمور لاباس» ويرفض التشخيص والعلاج والحمية (كما هو حالنا اليوم تماما) فإنه مقدم ولاشك على تحوّل التراكم الكمي للمرض إلى تحول نوعي يصبح معه العلاج أمرا مستحيلا ..
صحيح أن تونس ليست أمام حافة الإفلاس بالمعنى التقني للكلمة وأن أجور الأشهر القادمة لن تشهد ما حصل خلال الأيام الأخيرة هذه، ولكن دون وقفة حازمة وإقرار جدي بخطورة الأوضاع وإقلاع نهائي عن المغامرات الفردية وأوهام البناء القاعدي وتظافر كل الجهود من اجل الإنقاذ أولا وبداية الإصلاح الجدي ثانيا..دون كل هذه الشروط الذهنية والسياسية سيتواصل الانزلاق التدريجي إلى أن نصل فعلا الى الانهيار.

لا نعتقد أن هنالك نمذجة رياضية تسمح بتوقع دقيق لانهيار بلد ما لو تواصلت حوكمته السيئة على ماهي عليه ،ولكن لنفترض أن نموذجا رياضيا يقول لنا أن عجز الدولة عن الإيفاء بتعهداتها (اي خلاص ديونها وموظفيها وضمان الحدّ الأدنى من التحويلات الاجتماعية ومن الاستثمار وصيانة البنية التحتية ) سيكون في شهر افريل 2025 لو تواصلت حوكمة المالية العمومية على هذا النحو فهل يعني ذلك انه بإمكاننا أن نواصل على نفس هذا النسق إلى حدود مارس 2025؟ بالطبع لا وألف لا لأنه لو صدق هذا التوقع لكان الإصلاح منذ شهر فيفري الجاري متأخرا للغاية وقد لا ينقذ البلاد من الانهيار الفعلي.
«لقد أكلنا خبزنا الأبيض» كما يقول الفرنسيون فالداء ينخر في جسم الدولة منذ تسع سنوات على الأقل ،هذا بالإضافة إلى الأمراض الاقتصادية والاجتماعية والتربوية الأخرى، وأن مناعة الجسم قد تراجعت كثيرا وأن الوصفة أصبحت صعبة ورغم ذلك فلا يحق لنا أن نتأخر يوما واحدا عن العلاج الفعلي. لكن لكل هذا ثمن سياسي لابد من القبول بدفعه : الإقلاع عن الإنكار وعن التجارب الطوباوية وإحلال التشاركية في كل شيء ونزع فتيل التطاحن الوطني وتهدئة كل المناخات والقيام بالتنازلات المتبادلة..هكذا وهكذا فقط نضع القدم الأولى على سكة الإصلاح،ويبقى بعد ذلك بذل قصارى الجهد الجماعي لقبول تضحيات مؤلمة في البداية لكنها تبقي وتدعم مناعتنا الجماعية وتمهد بالتالي للإقلاع الحقيقي..

هذا هو المطلوب بل هذا هو الحد الأدنى المطلوب،أما الاعتقاد بان اتفاقا إداريا تقنيا مع صندوق النقد الدولي أو قروض ثنائية مع بعض الأصدقاء والأشقاء كفيل بحل جدي لهذه الأزمة المزمنة فذلك هو عين الوهم .
لا إصلاح دون رؤية ولا رؤية دون قيادة (جماعية) ولا قيادة دون شجاعة، ذلك هو الفيصل الوحيد بين الدول الناجحة والدول الفاشلة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115