الاختيار بين مسار تشاركي أو مشروع فردي: تونس رهينة قرار الرئيس قيس سعيّد

يستشعر جل التونسيين انسداد الافق في المشهد السياسي والاقتصادي والمالي مما يثقل معاشهم اليومي وهو يشغل عن الانصراف لتقديم مؤشرات اقتصادية

ومالية او استعراض الاحداث السياسية وتطورات المواقف من هذا الطرف او ذلك، على اعتبار ان «الانطباع السائد لدى الشارع» معطى يؤخذ بعين الاعتبار في فهم الفعل السياسي وتوقعه.

الانطباع السائد اليوم في تونس ان البلاد تترنح غير قادرة على ايجاد مسار وهي في نهايته تقع معالجة الازمة السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية اي انهاء حالة الخوف والحيرة وانتظار المجهول المنتشرة بأشكال عدة لدى الشارع التونسي من الغد وما يحمله في ظل مؤشرات وارقام رسمية تضفي عليه سمة «سوداوية».

استشعار هذا الواقع ليس فقط لدى من كان يرى ان خيارات الرئيس في المسار السياسي كانت في احسن الحالات تحول دون تحقيق شروط موضوعية دونها لا يمكن انطلاق عملية الانقاذ اذ ان الرئيس ومنذ 25 جويلية الفارط تاريخ تفعيل الفصل 80 من الدستور اختار ان «يتخذ القرارات بمفرده» وفق تأكيده، كما اختار ان تتابع هذه القرارات بنسق بطيء يغفل عن ان ازمات البالد في حاجة لحلول عاجلة وليس اجلة بحجة «الفرز».

فرز انفق فيه الرئيس اشهر عدة. اذ ان المدة الفاصلة بين تفعيل التدابير الاستثنائية وأداء حكومة نجلاء بودن لليمين الدستورية هي ثلاثة اشهر تقريبا أشهر كان من الافضل ان تنفقها الحكومة في صياغة سياسيات مالية ونقدية وإدارة مفاوضات بهدف تعبئة موارد مالية. هذا الان من الماضي، ولكن العودة اليه مهمة للوقوف على اختلاف السرعات بين الزمن السياسي الذي يتحكم فيه الرئيس وبين زمن الازمة المنفلت عنه وعن كل فاعل سياسي في البلاد.

الازمة وزمنها يتجسدان اليوم في حجم الصعوبات المالية وفي تعثر السياسية العمومية المتبعة لإيجاد توازن في المالية العمومية يسمح للدولة بان تستمر في الايفاء بتعهداتها والتزاماتها. وهي ازمة تتطور بنسق سريع منذر بمخاطر جمة اشدها «انهيار الدولة ومؤسساتها» وفق تقارير دولية صدرت في الاسابيع العشرة الاخيرة جعلت من انهيار الدولة الخطر المتربص بتونس في الاشهر الـ24 القادمة بسبب تفاقم ازماتها، والتي ورثها كل نظام حكم عن سابقه كما يقدم في الخطاب السياسي الذي انشغل بأولوية تحديد من يتحمل مسؤولية تفاقم الأزمات وغفل عن اولوية المبادرة بمعالجة الازمة بشكل عقلاني.
امام هذا الواقع الاقتصادي والمالي الصعب. يقف الزمن السياسي المتحكم فيه من قبل الرئيس قيس سعيد عند لحظة اخرى للاختيار بين مسارين سيحددان الى اين نمضى. اذ ان التطورات السياسية الراهنة تضع الرئيس امام خيارين، سيحدد اي منها نمضى اليه وفق طريقة استيعاب الرئيس للتطورات في مواقف جزء واسع من الداعمين له وارتفاع أصوات انتقاداتهم بشكل صريح ومن بينهم حركة الشعب.

الرئيس اليوم اما مسارين، الاول ان يستوعب الاحداث على انها مؤشرات عن تعثر مساره السياسي نتيجة تنزيله بطريقة احادية لا تسمح لغيره بالتأثير او التعديل، وهذا ما نجم عنه توتر المناخ السياسي وتهيئته للتعثر والفشل يحول دون القدرة على تحقيق استقرارا حتى في احده الادنى مما يسمح بالوصول الى توافق بشأن مسار الخروج من الازمة الاقتصادية والمالية. اي ان ينظر الى الازمة السياسية الراهنة على انها محددة في مصير البلاد.

بهذه النظرة قد يختار الرئيس ان يعدل من سياسته وان يتبع نهج الانفتاح للسماح للقوى السياسية والمجتمعية بالمشاركة في المسار السياسي بهدف تعديله وتوفير شروط نجاحه، اي ان يعدل من تمشيه الاحادي بفتح الحوار الفعلي مع من يلتقى معهم سياسيا ومن يختلف معهم، خاصة وان المسار السياسي لا يعالج برامج الحكم وانما يعيد تشكيل قواعد العيش المشترك بين التونسيين.

خيار اول مرتبط بمراجعة مكثفة للخيار السياسي المنتهج من قبل الرئيس خلال الاشهر السته الفارطة، يقابله خيار ثان وهو هنا لا تقتصر عناصره على استمرار الرئيس في ذات الخيار والسياسية الاحادية بل بالترفيع من نسق خطواته واختصاره للاجال بهدف فرض الامر الواقع على الجميع.
هذا الخيار مطروح للاسف بشدة، بالاستناد إلى مؤشرات كشفها الرئيس في كلمته في اجتماع المجلس الوزاري الاخير او في تصريحات اعضاء تنسيقيات حملته التفسيرية ومناصريه المقربين من محيطه، وهي تصريحات تفرض اولا الاقرار بعمق الازمة التي تعانيها البلاد وتدفع بالمسار الى اقصاه تحت شعارات عدة.

دفع يكشف ان القراءة السياسية الراهنة لدى الرئيس ومحيطه قد تكون قائمة على اعتبار اي «مراجعة» او تعديل هو بمثابة الاعلان عن تعثر او فشل المسار اي انه عوضا عن فتح افاق للرئيس وللبلاد قد يؤدي الى استرجاع المنظومة لانفاسها واستعادة زمام المبادرة، وامام هكذا فرضية يكون الخيار الافضل هو الذهاب الى الاقصى اي الدفع بالمسار الى منتهاه والتسريع في نسقه لتجنب اي ارتدادات او تطورات سلبية على مشروع الرئيس.

بعبارة اخرى نحن امام فرضية ان يتجاهل الرئيس لحقائق الوضع الاقتصادي والمالي وارتباط الحلول الممكنة بحل سياسي للازمة، وانتهاجه لخيار رديكالي يعمق الازمة بجعل الفضاء السياسي متوترا ومحتقنا بسبب فرض الرئيس للامر الواقع على الجميع، اي فرض مشروعه السياسي برمته دفعة واحدة وجعله الحل الوحيد المتبقى.

فرضيتان سيكون الرئيس هو المسؤول عن اختيار احدهما وبخياره سيكون قد رسم مستقبلنا، اما النجاة جميعا او الغرق جميعا لفشلنا عن ادراك قواعد العيش المشترك وكيفية تحديد أولوياتنا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115