حكم بلا سياسة و«ديمقراطية» بلا أحزاب

ماهو المشروع السياسي لرئيس الجمهورية وما هي «الديمقراطية الحقيقية» التي يحلم بها بإرسائها في البلاد ؟ سؤال ،

على بساطته ،لم نجد له جوابا واضحا مقنعا مهما أنصتنا ومهما سعينا إلى فهم جماعة «الحملة التفسيرية» .
نحن نعرف الاسم دون شك: «البناء القاعدي» أو «البناء الديمقراطي القاعدي» والذي أشار إليه رئيس الدولة في آخر اجتماع لمجلس الوزراء لماما.
ولكن ماهو المُسمّى وماهو مضمون هذا البناء القاعدي ؟ وهل أن الانتخاب في أضيق الدوائر (العمادة مثالا) والتصعيد من المحلي إلى الجهوي من جهة ومن المحلي إلى الوطني من جهة أخرى عبر إلية الاقتراع يكفي للإجابة عن سؤال ماهية المُسمى ؟
نحن نعلم أن رئيس الدولة وأنصاره الخلّص لا يؤمنون بالديمقراطية التمثيلية ولا بمنظومة الأحزاب ويعتبرون أن الأجسام الوسيطة قد أضحت نوعا من الارستقراطية التي تستأثر بالقرار وبتوزيع الغنائم ومناطق النفوذ المادية والمعنوية وأن الحل يكمن في تجاوز كل هذه الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات قصد إعادة السلطة إلى الشعب ..
قد يبدو هذا الطرح طريفا ومستجدا ومغريا إلى حدّ ما ..لكن ما لا يمكن لجماعة الحملة التفسيرية تجاهله أن الدولة ،أية دولة،لا يمكن تسييرها إلا بواسطة تمثيلية ما ، حتى لو تتبع هذه التمثيلية آليات الديمقراطية المتعارف عليها..فرئيس الدولة سواء أفرزته الانتخابات أو الغصب إنما هو الدرجة القصوى للتمثلية إذ يختصر في شخصه كامل الجسم الانتخابي أو كامل الشعب وهو يمارس السلطة دون العودة المستمرة للشعب فهل تكون التمثيلية خيرا محضا عندما يتعلق الأمر برأس الدولة وشرا مطلقا عندما يتعلق الأمر بنواب الشعب في البرلمان ؟
ثم لو تبنينا نظاما انتخابيا يقوم على الاقتراع في أضيق الدوائر أليس هذا أيضا نوعا آخر من التمثيلية ؟ ونحن لن نتمكن مطلقا من تجنب التمثيلية في أية عملية انتخابية إذ أن التمثيلية عنصر جوهري في كل انتخاب حتى لو كان ذلك في مجلس قروي أو في مجلس الأقسام أو في نقابة أساسية إذ يُمثّل المُنتَخَب المُنتَخِب ضرورة في كل هذه الوضعيات ..
جواب البناء القاعدي على النمط التونسي هو أن التمثلية التقليدية تحول المُمثّل إلى محترف والمنتخبين إلى طبقة سياسية تستأثر بالحكم عبر الأحزاب وان المقصود ليس إلغاء التمثيلية بإطلاق بل إلغاء احتراف السياسة وذلك بالإلغاء الفعلي أو العملي للأحزاب ..
لاشك أن هنالك مساوئ عدّة في تحويل السياسة إلى مجرّد حرفة ولكن هل يمكن لكل مواطن (ة) أن يدعي بجدية القدرة على تمثيل الشعب والتشريع باسمه ؟ ألا يقتضي ذلك إعدادا ذهنيا وجملة من المعارف والملكات ؟ ونحن هنا لا نتحدث عن المستوى المعرفي للأشخاص بل على رغبة الشخص في خدمة المجموعة وعلى ضرورة الاستعداد الجيّد لهذه المهمة النبيلة غبر تطوير الأفكار والبرامج وعبر الانخراط في الشأن العام واكتساب التجارب الضرورية لفنّ القيادة ...هذا لا يجعل من السياسة حكرا على بعض الأشخاص أو الأحزاب ولكنه لا يجعل منها كذلك في مجتمع معقد مسألة متاحة للجميع دون إعداد واستعداد ورغبة وطموح ..والحزب السياسي بالمعنى الواسع للكلمة هو الإطار الذي ابتدعته الديمقراطيات الحديثة لهذا الإعداد والاستعداد وهذا هو معنى «الفضاء العام» كذلك ،أي ذلك الفضاء التداولي الذي تُناقش فيه الاختيارات الوطنية الكبرى في كل المجالات وتختبر فيه كل المقترحات والأفكار وهو في جوهر فكرة الوساطة بين الدولة وأجهزتها وبين عموم المواطنات والمواطنين ..
إن إلغاء الوسائط بهذا المعنى يصبح إلغاء للسياسة،أي إدارة المدينة،بما هي تصورات يختلف فيها حول تقدير المصالح وبإلغاء السياسة يبقى الحكم مجرد هيمنته سلطوية على المجتمع ويتحول إلغاء الوسائط إلى إلغاء عملي لكل تشكيل لمقاومة النزوع الطبيعي إلى التغول عند كل سلطة بنسف السلطات المضادة ويصبح التداول على الحكم تداولا بين الأشخاص لا بين الأفكار والاختيارات .
لا وجود لخير مطلق على وجه البسيطة، وللديمقراطية التمثيلية مساوئ كبيرة ولذلك طورت البشرية في العقود الأخيرة أفكار التشاركية والمحاسبة ومقادير من الديمقراطية المباشرة عبر الاستفتاء المواطني لا الاستفتاءات التي يضعها الحكام على مقاسهم وجعلت الشأن العام تحت رقابة الإعلام والمجتمع المدني والقضاء خاصة، واستنبطت أطرا تعديلية حتى لا يستبد السياسيون بالحكم وحتى لا يكون الأمر دولة بينهم فحسب، ولكن إلغاء السياسة بهذا المعنى لا يتناسب إلا مع الحكم الفردي ومع الأنظمة التسلطية وتهميش التعددية الحزبية لا يهدف ، حيثما جرّب، إلا إلى إفراغ العملية الانتخابية من مضمونها الفعلي أو القدرة على معاقبة الحكام وإحداث التداول السلمي والفعلي للسلطة .
ويبقى السؤال قائما : ماهو المشروع الفعلي لرئيس الجمهورية والى أين يريد قيادة البلاد وهل سنكون في نهاية هذه السنة أمام موعد انتخابي تشريعي تتوفر فيه ظروف المنافسة النزيهة بين الأحزاب والتيارات الفكرية أم مناسبة إضافية للمرور بقوة ؟
التونسيون ينتظرون إجابات واضحة حتى تنقشع الغيوم من سمائنا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115