لقد أطل المنصف المرزوقي يوم أمس على التونسيين ومن خلال برنامج تونس باريس الذي تبثه التلفزة الوطنية الأولى وفرنسا 24 والذي ينشطه الزميلان توفيق مجيد وإلياس الغربي على امتداد خمسين دقيقة ليقول لنا بأنه عائد إلى السياسة بعدما التزم الصمت طيلة سنة كاملة.. عاد ليقول، تقريبا، نفس الكلام ولكي يدافع عن نفسه وفترة حكمه منزها إياها من الأخطاء ومشيرا بالبنان إلى نفس «الأعداء»: «المنظومة القديمة» والإعلام المتحامل مضيفا إليهما هذه المرة وبكل وضوح قيادة حركة النهضة التي غيّرت نهجها وطعنته في الظهر منذ صائفة 2013 ولقاء باريس الشهير بين «الشيخين»...
ولكن المرزوقي يعلم جيدا أنه لولا «شعب النهضة» لما كان في الدور الثاني لرئاسية 2014 فكان حريصا على شكره وشكر مناضلي الحركة الإسلامية الذين صوّتوا له رغم أنف إرادتهم.. أما قيادتها فقد تحولت من مناصرتها لـــ«الثورة» إلى التحالف مع أعدائها ومع رموز المنظومة القديمة...
ويصر المرزوقي مرة أخرى على أنه أجهض محاولة انقلاب في صائفة 2013 منقذا بذلك الإسلاميين من السجون ومن مصير «الإخوان» في مصر... ورغم ذلك فقد غدرت به قيادة النهضة وتحالفت مع عدوه اللدود.
مسألة غريبة يعلن عنها المرزوقي لأول مرة إذ يقول بأن تقارير أمنية واستخباراتية كانت تصله كل يوم سنة 2013 تقول بأن قيادة النهضة قد بدأت في تغيير تحالفاتها ولكنه لم يكن يريد تصديقها معتبرا إياها نوعا من السعي للتفريق بينه وبين حلفائه الإسلاميين الخلص.. ولكن اتضح له فيما بعد أن الأمر كان على هذه الشاكلة...
والسؤال ما هي الجهات التي كانت تقدم مثل هذه التقارير السياسية لرئيس الجمهورية؟ وهل من حق هذه الأجهزة متابعة نشاط السياسيين ومعرفة ما يدور في جلساتهم المغلقة؟ !
نقطة بقيت غامضة في الحوار ولسنا ندري هل أن الأمر كان هكذا أم أن المنصف المرزوقي يخلط بين تقارير الاستخبارات الرسمية وتقارير من صنف آخر...
ويكرر المرزوقي بأن انتخابات 2014 كانت حرة ولكنها لم تكن نزيهة أو على الأقل لم تكن نزيهة بالقدر الكافي ولكن حرصا منه على حقن دماء التونسيين فقد قرر القبول بنتائجها منتظرا من القضاء الحسم في كل تجاوزاتها...
وبالطبع الانتخابات لم تكن نزيهة لان الإعلام كان يستهدفه وأنه تم ضخ أموال سياسية فاسدة بالإضافة إلى تصويت بعض الموتى كما أنه تمت مغالطة الناخبين لأنهم لم يكونوا يعلمون حينها بالاتفاق «السري» بين «الشيخين»..
وعندما سئل عن استقباله للسلفيين في قصر قرطاج أخرج الأسطوانة المشروخة التي يعمد إليها في مثل هذه المناسبات ومفادها أن البلاد عندما دخلت في حرب على الإرهاب تم إعداد استراتيجية لذلك تقتضي السعي للتأثير على بعض السلفيين لجلبهم للجمهورية ولإقناعهم بضرورة الحد من تشنج الشباب السلفي...
وينسى الرئيس السابق أنه استقبل هؤلاء التكفيريين في بدايات سنة 2012 أي قبل «إعلان» الدولة الحرب على الإرهاب.. واستقبلهم لأنه وصفهم قبلها بأيام في الخارج بـــ»الجراثيم» فأراد الاعتذار منهم ليس إلا...
وسوف تبيّن الوثائق الرسمية بعد أن تخرج من طور السرية بأن «حماس» المرزوقي في الحرب على الإرهاب كان خافتا إذ كان من الذين يؤيدون عدم منع مؤتمر أنصار الشريعة في ماي 2013 بالقيروان بتعلة عدم قدرة الدولة على ذلك ولكن إصرار رئيس الحكومة، علي العريض، ووزير الداخلية لطفي بن جدو وكل القيادات الأمنية والعسكرية هو الذي أجبره على الإذعان لهذا المنع.. ونذكر هنا بأنه قد وقع اغتيال الشهيد شكري بلعيد وبدأ تمشيط جبال الشعانبي وسقطت أولى ضحايا قواتنا العسكرية والأمنية نتيجة انفجار الألغام.. وأن كل قيادات حزبه آنذاك كانت تقول بأنه لا توجد إلا أشباح في الشعانبي وأن الخطر الذي يهدد البلاد آنذاك هو خطر الثورة المضادة لا خطر الإرهاب «المزعوم» حسب تقديرهم هم...
ورغم تبيان زيف التصور الذي كان يحدو رئيس الجمهورية في هذا الملف بالذات فهو يصر إلى اليوم على عدم الاعتراف بأي شيء ويريد إيهام من هو مستعد لتصديقه بأنه كان جديا في محاربة الإرهاب...
لقد أكثر المرزوقي من الحديث عن القيم والشرف والابتعاد عن النفاق ولكن يبدو أنه يعيش في عالم من نسج خياله لا علاقة له بالواقع الذي خبره التونسيون خلال سنوات حكمه.. وهو يعتقد بأن ما كاد يصلح في انتخابات 2014 قد يُعاد في سنة 2019 ولكن بنجاح أكبر بفضل «شعب النهضة» ثم يلقي «قنبلة» صغيرة مفادها أن لديه شكوكا جديدة في حصول انتخابات حرة في 2019 وأن الصندوق مهدد حسب تعبيره الخاص.. خاصة وأن الإعلام يكاد يكون مجمعا على استهدافه هو فقط دون أن يتساءل ولو لبرهة ما الذي جعل علاقته متوترة إلى هذا الحد مع مختلف وسائل الإعلام؟ هل العيب فيها هي فقط؟ ألم يكن له دور في شحن المناخ العام كلّما تدخل في وسيلة إعلامية ولا سيما خارج حدود الوطن؟!
المنصف المرزوقي لا يُخطئ ولا يُخَطَّأُ وحدهم الإعلاميون منحازون ضده دون مبرر...
«تلميذ» مانديلا كما وصف نفسه يريد إقناع التونسيين أنه من صنف الثوار الملائكيين الذين يحاربون لوحدهم طواحين الفساد والاستبداد.. ثم يقول لنا جملة لطيفة «تونس تُحكم في الوسط» أي وسط هذا؟ الوسط المتكون من «الإسلاميين المعتدلين» و«العلمانيين المعتدلين».. نعم هكذا يريد المرزوقي إحياء «الترويكا» غير المأسوف عليها...
المهم على كل حال أن منصف المرزوقي يحلم بجدية باستعادة عرش قرطاج سنة 2019..
في الأثناء سوف نرى كم يزن في الانتخابات البلدية القادمة..
وحده الصندوق هو صاحب القرار في الديمقراطية..