هنالك فكرة سائدة في تونس في هذه السنوات الأخيرة : نحن متفقون في تشخيص الأزمات ولكننا مختلفون في الحلول الكفيلة بإخراجنا منها.. والصواب أننا متفقون في التوصيف الخارجي لأزمة ما ولكننا لم نتواضع إلى حدّ الآن على تشخيص مشترك ..
السؤال المحوري الذي شقّ النخب العربية - والتونسية من بينها – منذ حوالي القرنين هو : لماذا نحن متخلفون ؟ أو على حدّ عبارة المصلح اللبناني الكبير شكيب أرسلان «لماذا تأخر المسلمون ؟ ولماذا تقدم غيرهم ؟» وهو عنوان كتابه الشهير الذي نشر سنه 1939 .
وقد قدّمت النخب العربية والتونسية أجوبة كثيرة من أهمها نحن متأخرون لأننا شعوب عاطفية لا تعلي دور العقل ..نحن متخلفون لأننا ابتعدنا عن التعاليم الدينية الصحيحة ..نحن متخلفون لأننا نحتقر العمل ونعتبره شيئا مهينا ..نحن متخلفون لأن حكامنا مستبدون ..نحن متخلفون لأن الغرب تآمر علينا فاحتلّنا ونهب خيراتنا ..إلى غير ذلك من مرويات التأخر أو التخلف العربي ..
نفس هذه المروية نعيدها اليوم مع تعديلات طفيفة في تعريف الجهة الداخلية أو الخارجية المسؤولة عن تخلفنا : الحكام الفاسدون..صندوق النقد الدولي ..التقسيم الدولي غير العادل للعمل الخ ..
الإشكال في كل هذه التوصيفات العامة أنها تحتاج إلى جهود أجيال لمعالجة ما نراه سبب تخلفنا ومن ثمة ضعف دولنا وفقر شعوبنا وتأخرنا في ركب الحضارة كما كان يقول الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.
ولكن ماذا لو كان الإشكال الحقيقي هو في طريقة طرحنا للإشكال المركزي لتخلفنا؟
ماذا لو كانت المشكلة في السؤال ذاته وخاصة في «لماذا» أي في سعينا الدؤوب لمعرفة «سبب» تخلفنا ؟
«التخلف» أو «التأخر» ليس خاصيّة عربية أو إسلامية ..فجلّ بلدان وشعوب المعمورة إلى حدود النصف الأول من القرن العشرين كانت «متأخرة» مقارنة بالدول الصناعية الكبرى، وجلّ الدول التي غالبت عجلة التاريخ وخرجت من وضع «التأخر» هذا وأضحت رائدة اليوم في مجالات العلم والفكر والتكنولوجيا والابتكار والاقتصاد عامة هي دول لم تطرح السؤال «لماذا» ولم تتساءل بمثل هذا الهوس عن سبب تخلفها بل انطلقت من المعطى الواقعي المباشر: نحن متخلفون،ثم طرحت السؤال: كيف نخرج من التخلف؟ كيف نبني قوة علمية وتكنولوجية واقتصادية وحتى عسكرية في بعض الحالات؟ دول كاليابان وكوريا الجنوبية والصين وسنغفورة وغيرها لم تطرح سؤال السببية شبه الميتافيزيقية «لماذا» .بل سؤال الطريقة العملية البراغماتية للخروج من وضعية التأخر «كيف؟» وانتهجت كلها طريق تقليد عناصر القوة الاقتصادية والعلمية ومزاحمة الدول الكبرى في قدراتها الصناعية بالنسبة للمنتوجات الأقل تعقيدا إلى أن اكتسحت الأسواق وراكمت الخبرات والتقنيات والأموال الضرورية لإحداث النقلة التكنولوجية بفضل تعليم ذي جودة علمية عالية وبتواصل هذه السياسات على امتداد عقود وعقود ..
أما نحن فبقينا في الأسئلة الميتافيزيقية الشبيهة بالسؤال عن جنس الملائكة وإلقاء المسؤولية على الاستعمار ثم على النظام العالمي الليبرالي الظالم ولم ندرك أن النهوض يحتاج أولا وأساسا إلى العمل والحركة وان التمكن من وسائل القوة الاقتصادية لا يتم إلا عن طريق العمل وتعميمه في التعليم والتكوين والتركيز فقط على الحاضر والمستقبل والكف عن البحث عن أكباش الفداء في الداخل وفي الخارج..
لا يوجد طريق آخر للنهوض الجدي غير هذه الطريق الآسيوية التي جرّبت فصحّت، وكل بحث عن «أسباب» التأخر إنما يؤخرنا عن استكمال شروط النهوض ..
الطريق الأسيوية ليست طريقا براغماتية فقط لا فكر فيها ولا رؤية عامة..الطريق الأسيوية هي أن نوجه كل طاقات البلاد نحو المستقبل والمستقبل فقط وان نجعل من العولمة فرصة لمنتوجاتنا ولخدماتنا وان نقوي من حظوظنا بشراكات قوية مغاربية وافريقية وعربية متوسطية وان نكف عن البكائيات وجلد الذات ومحاولات العيش في الماضي السحيق أو القريب ..
البداية تبدأ من التشخيص السليم ..وهذا يحتاج لوحده إلى ثورة ذهنية استثنائية.
أمام تفاقم أزماتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية: التشخيص الخطــــــــــأ !
- بقلم زياد كريشان
- 10:20 25/11/2021
- 1058 عدد المشاهدات
التشخيص الجيّد لكل مشكلة هو نصف الحلّ إن لم يكن أحيانا الحلّ كلّه ..