على هامش المقولة الرئاسية «الشعب يريد ويعرف ماذا يريد»: هل أن ما تريده تونس هو ما يريده التونسيون ؟ !

السياسة ليست فقط فنّ إدارة الشأن العام أو فنّ الممكن ،هي أيضا السعي إلى تغيير واقع معقد بأفكار بسيطة،والأفكار البسيطة (لا المبسطة أو التبسيطية)

تحتاج بدورها إلى مفاهيم (الشعب، الأمة، الدولة، المصلحة الوطنية، الثورة، العدالة، المساواة..) لفهم الواقع أولا ثم تغييره ثانيا ..

المفاهيم كائنات نظرية ذهنية لا وجود مادي لها بالمعنى المتعارف عليه، وبساطة الفكرة تصبح تبسيطا مخلا وخطيرا عندما نعتقد أن المفهوم ليس أداة للفهم والتفسير بل هو واقع ملموس وأن السياسي ينطق عنه وبه وهنا ننتقل من الأفكار البسيطة إلى الايدولوجيا ومن فهم الواقع إلى تزييفه ..
يخضع المفهوم إلى مساءلة مستمرة وإعادة بناء وتأسيس بينما الايدولوجيا هي بناء محنط لا يهدف إلى فهم الواقع بل إلى إدخاله قسرا في قوالبه الجاهزة..
لنأخذ على ذلك مفهوم الشعب مثلا ..

هل أن الشعب هو مجموع أفراد وطن ما،وهل هو مجموع الأحياء فقط أم يحمل في طياته ذكرى السابقين من قيم وعادات؟ وهل هو مجموع الأحياء والموتى فقط أم يقحم ضرورة الأجيال القادمة التي ستقاسمنا نفس الرقعة الجغرافية والدولة والعلم والتي سنورثها أيضا ايجابيات وسلبيات وضعنا الراهن ؟
هل أن الشعب وحدة متجانسة أم هو تنوع واختلاف في الأفكار والمواقف والمواقع والمصالح؟ وكيف يظهر الشعب؟ في الانتخابات ؟ في الاحتجاج ؟ في السلوكيات اليومية ؟ هل أن له صوتا واحدا أم أصوات عدة ؟ كل هذه الأسئلة ضرورية حتى لا يتحول الشعب إلى صنم محنط ينطق باسمه كهنة يعزون إليه إرادة وقولا ومصلحة تتماهى كلها في النهاية مع إرادة وقول ومصلحة من يجعل من نفسه (شخصا كان أو حزبا أو جماعة) وعاء الشعب وروحه النابضة.

مفهوم الشعب ضروري ولاشك لبناء مفاهيم أساسية في السياسة كالصالح العام أو المصلحة العامة وكالإرادة العامة والتي تتجلى أساسا في الانتخابات والرأي العام الذي يتجلى في الفضاء العام بواسطة وعبر كل الهيئات والجماعات والهياكل الوسيطة، دون أن يتحول هذا المفهوم إلى حقيقة مادية أحادية الوجهة والاتجاه ..

وهنالك فرق شاسع بين الشعب كمجموعة أفراد (التونسيون مثلا) والشعب كوجود تاريخي يمتد من الماضي إلى المستقبل وكعقلانية ما للاجتماع البشري (تونس في وضعية الحال) فلو استفتينا مثلا التونسيين وسألناهم ما الذي يريدونه ؟ لأجاب الملايين منهم «الانتداب في الوظيفة العمومية» ولطالبت أيضا الملايين بقروض بنكية دون فائدة ودون ضمانات عينية..
نحن أمام رغبات عادية ومشروعة،ولكن هل تتلاقى إرادة ورغبات ومصالح التونسيين مع إرادة ورغبات ومصالح تونس والحال أن كلا المفهومين (التونسيون وتونس) يمثلان مستويات أساسية في مفهوم الشعب ؟!
تلاحظون أننا لا نتحدث عن الاستعمال الشعبوي لمفهوم الشعب فتلك مسألة أخرى،بل فقط عن الشعب كمفهوم أساسي لتحديد هوية دولة ما وكقاعدة لكل حكم شرعي.

لقد عرّف فلاسفة العقد الاجتماعي الإرادة العامة كجمّاع للإرادات الفردية لا كمجوعها فقط أي أن الإرادة العامة تتجاوز مجموع الإرادات الفردية للحظة ما وأن هذه الإرادات العامة تتجلى في كل الأفراد بالتخلي عن حريتهم الطبيعية وما يلازمها من علاقات عنيفة بين الأفراد إلى كيان يتعالى عنهم ويستأثر هو بالعنف الشرعي مقابل تحويل الحقوق الطبيعية للأفراد إلى حقوق مدنية وان يتكفل هذا الكائن المتعالي (الدولة) بحفظ الأرواح والممتلكات ثم تطورت الفكرة فأصبحنا نعتقد أن الإرادة العامة تُستفتى بصفة دورية عبر انتخاب ممثلين لهذا الشعب (الديمقراطية التمثيلية) ولكن تجارب العقود الأخيرة في العالم،والعقد الأخير في بلادنا،تدل كلها أن الانتخابات لا تكفي لوحدها للتعبير عن هذه الإرادة العامة المتنوعة والمتغيرة على الدوام وأن أعدادا متزايدة من الناس في كل شعوب الدنيا لا تريد أن تكون فقط أوراق اقتراع تتلاعب بها في ما بعد طبقة سياسية وفق مصالحها وتصوراتها الخاصة..

الأفكار البسيطة (les idées simples) عندما تكون جدية وحركية ونقدية تؤدي بنا دوما إلى مناطق معقدة يعسر استيعابها وان المفاهيم مضطرة دوما للتجدد والتجاوز حتى تتأقلم مع واقع يزداد تعقيدا يوما بعد آخر ..

الإنصات الى الشعب أي الى مجموع التونسيين بكل فئاتهم وجهاتهم ومستوياتهم الاجتماعية والمعرفية وبفرادة كل أفرادهم كذلك مسألة ضرورية حتى لا تبقى السياسة حكرا على محترفين انقطعوا عن هذا الواقع المتجدد المعقد ولكن اختزال كل هذا التنوع والتعدد والتناقض أيضا في شعارات عامة تقسم الناس ولا توحدهم وتحول اختلاف المواقع والمصالح إلى عناصر لتطاحن جديد ستؤدي بنا إلى فتنة تقضي على النزر اليسير من مكاسب تونس عبر العصور.. ولكن إذا لم نفهم أن الانتماء إلى وطن ما يعني أيضا مشاركة الجميع في ثرواته المادية والمعنوية بأن تكون طرق النجاح والتفوق معبدة لجميع بنات وأبناء الوطن.. إذا لم نفهم هذا أيضا وإذا لم نعمل على تحقيقه سيتحول الوطن إلى مفهوم لا يعني شيئا للعديد من أبنائه .

الشعب مفهوم ومشروع للإنجاز وليس واقعا محنطا ينطق به بعضهم.. والشعب كتعدد وتنوع وتناقض ضمن الوحدة يحتاج لكي يعبر عن نفسه إلى تشارك وتداول في الثروة المادية والمعنوية ، أما المغامرات الفردية فلا تنتج شعبا بل رعية فقط ليس إلا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115