ورفع الحصانة عن كل أعضائه دون أن نعلم ما هي الوجهة التي يريدها رئيس الدولة للبلاد عامة وللحياة السياسية خاصة.
النقاش القانوني والسياسي لتوصيف هذه الإجراءات الاستثنائية هام ولاشك ولكن السؤال المهيمن الآن على كل الأذهان هو إلى أين تسير البلاد وما الذي يريده رئيس الجمهورية بالضبط باعتبار انه قد أصبح ممركزا لكل السلطات والمحور شبه الوحيد للحياة العامة ؟.
كيف يمكن أن نوصّف هذه الأسابيع الخمسة الأخيرة ؟ بعبارة أخرى ما ملامح هذه «الحالة الاستثنائية» التي أوقفت العمل بصفة فعلية بدستور 2014 على الأقل في فلسفة حكم البلاد وذلك بغض النظر عن الأداء العملي للسلطات وللهيئات التي اقرها هذا الدستور ؟
السمة البارزة لهذه الفترة هي غياب تشكيل حكومة والتأجيل المستمر لتعيين خلف لهشام المشيشي في القصبة، وكانت المعطيات الأولية تفيد بأن رئيس الدولة يريد إصدار أمر رئاسي ينظم بصفة مؤقتة السلط العمومية يعيّن بمقتضاه مكلفا بتسيير الحكومة، والسؤال هو لِمَ تأخر هذا الأمر إلى حدّ اليوم ؟ هل لأنه مازال قيد الدرس والنقاش أم أن السبب الحقيقي غير هذا؟
تقديرنا – وقد نكون مخطئين – أن السبب الرئيسي لعدم تعيين رئيس حكومة (أو وزير أول) هو أن تخلو خشبة الفعل والظهور السياسي في السلطة التنفيذية لرئيس لدولة وله فقط لا غير .قيس سعيد حريص كل الحرص على أن يظهر كالمتحكم الوحيد في كامل أجهزة الدولة سواء عبر استقبالاته والتي عادة ما يستغلها لمخاطبة الشعب التونسي مركزا على ما يعتبره جوهر سياسته الحالية وهي اعتبار أن الخطر «الجاثم» على الدولة والذي برر ذلك التفعيل الخاص للفصل 80 من الدستور إنما هو متأت من أهم مؤسسات الدولة ذاتها برلمانا وحكومة تنضاف إليهما منظومة الأحزاب المرتبطة بمافيات الفساد التي تنكل يوميا بالشعب التونسي .
وفي زياراته الفجئية يريد الرئيس ان يكشف للتونسيين الصورة المادية لهذا الفساد المنكل بحياتهم،ولإتمام هذه المشهدية نجد الايام المفتوحة للتلقيح المكثف التي تعكس فاعلية الدولة بعد 25 جويلية مقارنة بالحكومة السابقة التي كانت تنكل بالشعب ..
هذه المروية الرئاسية تحتاج إلى وقت حتى تتأكد كبديهة يصعب بل يستحيل نقاشها، واحتلال الركح السياسي بصفة شبه يومية ضروري لطمأنة أنصار الرئيس من جهة والتقليص قدر الإمكان من فرص معارضيه لانتقاد سياساته وقراراته وتصريحاته.
ولكن هنالك مفارقة أصلية في هذه الوضعية وهي مركزة النقد ضد مركزة السلطة وتحميل صاحب قرطاج كل أخطاء أو انحرافات أو سوء تقدير مختلف الأجهزة التنفيذية من قرارات الإقامة الجبرية ضدّ أشخاص لا يمثل جلّهم خطرا على الأمن العام والمنع من السفر بشبهة المهنة أو الصفة دون تبرير مقنع، كذلك هذه المداهمة الغريبة لهيئة مكافحة الفساد وهي هيئة من هيئات الدولة وهي مؤتمنة على ملفات دقيقة ومعطيات شخصية لأكثر من مائتي ألف مواطنة ومواطن دون تفسير أو شرح وأخيرا تسليم مواطن جزائري يحظى باللجوء السياسي في بلادنا منحته له المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في ما يبدو أيضا أنه صفقة لا تليق ببلادنا وبديمقراطيتنا رغم كل تعثراتها وهناتها ..
كما أن كل التدخلات «الاقتصادية» لرئيس الدولة تثير مخاوف حول حقيقة إدراكه لأوضاع البلاد وطرق إصلاحها ..
هنالك إجماع في تونس بأن الفساد وكل أصناف الجرائم الاقتصادية قد استفحلت في هذه السنوات الأخيرة ولكن كل ذلك لا يجعل من بلادنا دولة غنية لولا هذا النهب وذلك بكل المقاييس العقلانية لان ما بيننا وبين هذا الثراء المفترض هو مضاعفة ناتجنا المحلي الإجمالي بأربع أو خمس مرات على الأقل.. الآن الآن وليس غدا ..واخطر ما في هذا التصور الرئاسي انه لا يبعث على العمل والكدّ والاجتهاد بل يشجع على الكسل ويضلل الوعي الجماعي وخاصة لدى الفئات الفقيرة والهشة بان رفاهيتها مرتبطة فقط باسترجاع ثرواتها المنهوبة ..
ولكن مع كل هذه الغيوم التي ميزت هذه الأسابيع الأخيرة بعد سنوات من الاستهتار وتحلل الدولة وتفشي الفساد في الطبقة السياسية الحاكمة، بعد كل هذا مازال رئيس الجمهورية رافضا لفكرة «خارطة طريق» أي توضيح الرؤيا للأيام والأسابيع والأشهر القادمة حتى نعلم ما الذي يريده قيس سعيد فعلا، وهل أن هنالك عودة جدية قريبة لحياة ديمقراطية سليمة تضمن فيها كل الحقوق والحريات مع الشروط الضرورية للتداول السلمي على السلطة، كما يريد التونسيون أن يعرفوا هل أن المستقبل سيخطه قيس سعيد لوحده مع أنصاره الخلص أم أنه مستقبل تشارك فيه كل القوى والإرادات التي تضمها البلاد ؟
لقد سئمنا السير على غير هدى ودون سراج منير.