جزءا من سردية عامة يمكّن تفكيكها من شرح خيارات الرئيس ويصبح التنبؤ بخطواته القادمة امر ممكنا.
لذا ولتجنب سوء الفهم او التعثر في فهم الرئيس سعيد تبرز ضرورة العودة إلى الماضي. وقراءته تباعا اي الى ما بعد 2011 مباشرة الى اليوم ومعرفة قراءة الرئيس وفهمه لمجريات الامور في تونس وثورتها. وهنا يتضح جليا ان المواطن قيس سعيد ينتسب إلى سردية تعتبر انه وقع الانحراف بالثورة وجعلها محطة لرسكلة القديم.
هذا هو تقييم الرئيس وفهمه للأحداث التي عقبت 14 جانفي 2011، وهذا مدخل اساسي يشرح جيدا كيفية تفكيك سعيد للمشهد وتحديد الاولويات والمعارك والحلفاء والأعداء. اي العودة الى مقولات قيس سعيد منذ 2011 ومعرفة انه يعتبر ان الطبقة السياسية وجزء من النخبة التي ابرمت صفقة مع مراكز النفوذ في المنظومة القديمة بموجبها وقع اختزال الثورة في الجانب السياسي والحقوقي وتجاوز استحقاقها الاقتصادي والاجتماعي.
فهم هذا يجعلنا ندرك منطلقات الرئيس وكيف اعتبر ان الثورة لم تستكمل، وشرط استكمالها هو عودة السلطة بكل رمزيتها وأدواتها إلى الشعب لبناء «منظومة « تعبر عنه، والشعب هنا يصبح في غنى عن هياكل تمثيلية وسطى، احزاب ومنظمات وجمعيات ونقابات، طالما ان الاخيرة تخلت عنه لتكون جزءا من الحكم اي المنظومة. وهنا يقع دائما استحضار حركة النهضة بالأساس في تلميحات الرئيس الى ذلك.
هنا يطل مصطلح «الشعبوية» ليكون الوصف المرافق للنهج السياسي لرئيس الجمهورية. وفي هذا نصيب من المعقولية. فقيس سعيد ولا يخفى عن احد- تتوفر فيه مقومات تصنيف اي تيار او مجموعة او فرد، بالشعبوي، فهو يعادي النخبة ويؤمن بالمؤامرة ويريد تفكيك اجهزة الدولة لإعادة بنائها وفق مقاربة جديدة. تقدم بها الرجل في حملته الانتخابية التفسيرية ويمكن اختزالها بالديمقراطية القاعدية المباشرة وسحب الوكالة.
لكن الاقتصار على اعتباره يتقاطع مع الخطاب الشعبوي أو يتبناه فيه اجحاف في حق الرجل الذي على عكس الفترات الماضية تتضح صورته اكثر مع كل خطوة يخطوها او اي خيار سياسي يصدر عنه. ولعل في كلماته الاخيرة رغم ضبابيتها وفي التعينات التي قام بها ما يمكن من الاقتراب اكثر للفهم.
والفهم هنا يقوم على ادراك ان الرئيس سعيد كأنصاره ومناصريه ينطلق من قراءة تعتبر ان ثورة 17 ديسمبر «هي انفجار» قام به اساسا الشعب للانعتاق الاقتصادي والاجتماعي قبل ان تتلقفه النخبة، وفق قراءتها، وتتصدر المشهد وتنحرف بالثورة الى الاستحقاق السياسي. لذلك فان اي محاولة للإصلاح تنطلق بتغيير النخبة. من هنا يفهم لماذا اختار الرجل دائما ان يبرز البون بينه وبين النخبة ويرفض احتفالات 14 جانفي .
اي ان الثورة ولضمان استمراريتها وقدرتها على تحقيق منجازاتها الاقتصادية والاجتماعية عليها ان «تغيير» النخبة. اي ان تكسر الحلقة المغلقة لهذه النخبة وتصدر ابناءها ليكونوا جزءا منها على الاقل ان لم يكن للحلول محلها، من منطلق ان النخب هي التي تقود عمليات البناء والتغيير وطالما ان هذه النخبة في قطيعة مع الشعب فلن تقدم على عمليات تغيير تحقق مطالبه.
هذا التصور اطل برأسه كثير في خطابات الرئيس في شكل مبهم جعله يصنف كخطاب شعبوي، لكن مع اقتران خطابته بفعل سياسي انطلق منذ تفعيل الفصل 80 من الدستور اتضح تدريجيا «العقل السياسي للرئيس».
عقل اذا تم تفكيكه يمكن ان نستنتج ان الرئيس سعيد يعتبر ان الفصل 80 ليس مجرد خطوة لإنقاذ الدولة ووضع حد لصراع الحكم بينه وبين حركة النهضة وباقي الاحزاب من خلفها. بل هو خطوة للعودة إلى اللحظة الثورية اي لحظة تفكيك النخب القديمة والمنظومة بهدف بناء الجديد.
هدف نلتقطه في كلمات الرئيس عن المعارك الكبرى واللحظات التاريخية وعن اشارته الى التآمر والخيانات وعن القطيعية التي بينه وبين الهياكل التمثيلية التقليدية من احزاب ومنظمات على حد سواء، اضافة الى مراكز النفوذ المالي والاقتصادي الذين يتوجه اليهم الرئيس بحذر نسبي.
فالرجل لا يعتبر تاريخ 25 جويلية هو مجرد تاريخ لإزاحة النهضة من الحكم بل تاريخ بداية معركة ازاحة كامل المنظومة التي يعتبر أنها استغلت التونسيين وخانتهم. وعليه فان حصر محاولات فهم تفكير الرئيس ومعرفة خياراته وخطواته القادمة في الجانب السياسي الدستوري وخاصة في نقطة خارطة طريق ، سيكون مجنبا للصواب لا يمكن من فهم او توقع الخطوة القادمة.
فقيس سعيد لا يعتبر انه في مرحلة استثنائية او انتقالية بل هو في مرحلة العودة الى مقولات التأسيس الاولى قبل الانحراف بالثورة واستحقاقاتها، اي انه في طور التعامل مع الوضع على اعتباره تصحيحا لمسار برمته للوصول الى الوجهة النهاية وهي ان تفرز الثورة نخبتها التي يفرزها الشعب وتمثله، وفق مقاربة الرئيس وفهمه.
مقاربة وتصور فيه الكثير من المؤاخذات ولكنه ينطلق من ارضية صلبها قوامها ان السنوات العشر والنخبة السياسية التي قادت البلاد كانت في قطيعة فعليا مع الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية، وغفلت عن اهمية وجوهر هذه الاستحقاقات في العملية الديمقراطية.
اليوم يعود الرئيس الى هذه المقولات ويرغب في ان يجعلها مركز فعله السياسي، وهذا يمنحه دعما في الشارع ضد النخبة التي يتصادم معها والتي تجد نفورا منها لدى جزء من التونسيين. وفي معاركه معه يبحث الرئيس عن بناء سردية جديدة تنتصر فيها «الثورة» على النخبة والمنظومة، وهذا فيه هامش من المغالطة والتعميم الذي سيقود الى أزمة بدوره.