سواء أتعلق الامر بالاحتجاجات الشعبية ضد منظومة الحكم او بقرار رئيس الدولة تفعيل الفصل 80 وفق قراءة متوسعة للغاية او كذلك بالفرح الشعبي التلقائي إثر هذا الإعلان الرئاسي ..
وكان من الطبيعي جدا ان تتنوع الآراء وان تتناقض في تقييم وتحليل كل ما حصل وخاصة دخول البلاد تحت طائلة الفصل 80 وفق التاويل الرئاسي له .. نحن هنا لا نتحدث عن آراء المعنيين مباشرة بهذا التفعيل من السياسيين بل بالمثقفين والناشطين في المجتمع الوطني وكل السياسيين غير المعنيين مباشرة بهذا الصراع وبعموم التونسيين أيضا ..
من حق الجميع ان يدافع كلّ عن وجهة نظره وان يعتبر ان ما حصل هو تصحيح لمسار الثورة أو مرور بقوة من قبل رئيس الدولة أو انقلاب دستوري أو كذلك ان يتحفظوا عن التوصيف النهائي في انتظار ان تتضح الصورة اكثر ..ولكن لا نعتقد انه من حق احد ان يشيطن الآراء التي تخالفه وان يتهم أصحابها بالعمالة والخيانة.
هنالك مثقفون بارزون كعياض بن عاشور وسناء بن عاشور وغيرهم كثير وكذلك سياسيون من الطراز الأول – وذلك أيا كان تقييمنا لتوجهاتهم العامة – كاحمد نجيب الشابي وحمة الهمامي وغيرهما كذلك قد اعتبروا ما اقدم عليه الرئيس انقلاب دستوريا وأن تأويل قيس سعيد للفصل 80 تعسفي وقد يمهّد إلى استبداد قادم ..
ما ان عبر هؤلاء – وغيرهم كذلك – عن هذه الآراء حتى اضحوا هدفا لهجومات شرسة تخونهم وتصفهم باقذع النعوت بدلا من مناقشة الحجة بالحجة وابداء التباين الفكري والسياسي دون تحقير نساء ورجال لعبوا أدوارا أساسية ومشرفة في خروج تونس من فترة استبداد بن علي ..
وكأنه يجب عليهم وعلينا جميعا ان نصطف وراء رئيس الدولة وكل قراراته دون تحفظ او نقد او حتى استنكار لها وكل ذلك تحت شعار ان الشعب قد «حسم» الامر يوم 25 جويلية وان الرئيس لم يفعل سوى الاستجابة لهذا المطلب الشعبي وان لا صوت يجب ان يعلو الان فوق صوت الرئيس !
وأكد رئيس الدولة في كل تدخلاته الأخيرة انه يحترم الدستور ويضمن الحريات الفردية والعامة وانه لن يخرج مطلقا عمن المسار الديمقراطي ولكن جماعة «لا صوت يعلو» كأنهم يريدون منه ان يكون «المستبد العادل» الذي طالما حلم به الشرق العربي وان يسكت كل الأصوات المعارضة وان تتحول البلاد كلها الى صوت المعركة الواحد الأوحد ..
لا شيء يجعلنا نشك في نوايا الرئيس او الا ناخذ ماخذ الجد كل الالتزامات والضمانات التي قدمها لكل من تحاور في معهم في هذه الأيام الأخيرة ولكن مناخ التعصب المتفاقم ضد كل صوت معارض هو الذي يجعلنا نخشى بوضوح على مستقبل التجربة الديمقراطية، على علاتها الكثيرة، فالصوت المعارض – حتى عندما يكون ظالما أحيانا – ضروري واساسي لكي لا ينحرف صاحب السلطة الى التسلط ولكي لا نعوض ديمقراطية بنخرها الفساد والزبونية الاسلاموية الجديدة بسلطة نظيفة ولكنها بلا كوابح فالسلطة المتفردة ستؤول بالنهاية الى استبداد جديد والاستبداد هو الأخ التوام للفساد عبر التاريخ ..
شيء من العقل والتعقل واحترام الآراء المختلفة وحتى المتناقضة وقوة الحجة بدلا من حجة القوة هي طريقنا الوحيدة للخلاص الجماعي .
لهذا كله وأيضا للمستقبل الآني للبلاد اقتصاديا واجتماعيا نحتاج الى خارطة طريق واضحة تعيد البلاد الى سكة الخلاف الديمقراطي بعد ان نكون قد استنتجنا كل الخلاصات من فشل واخفاق المنظومة السابقة ..
التاريخ لم يكتب بعد ،ولكن كل من سيضع فيه حرفا واحدا سيكون مسؤولا لا فقط عن ادارة الخلاف الحالي بل على مستقبل البلاد والأجيال القادمة.