وليست لها الرغبة في امتلاك إرادة الفهم وهي بذلك تقيم الدليل على إفلاسها. فكيف يمكن الاستمرار في إدارة الشأن السياسي مثلا والثقة منعدمة، والهوة تتسع يوما بعد آخر بين من هم في سدة الحكم ومن يتحملون تبعات سياسات ارتجالية تُصاغ وفق منطق «الحزام»: حزام يُقدّم لنا على أنّه حزام العفة والشرف الذي بإمكانه أن يحصّن الحكومة من كلّ الإغراءات والفتن والانحرافات. ولكن ها أنّ ''الحزام طاح وتخبّل» وفضح العجز والسقوط الأخلاقي.
فمنذ سنوات نعاين انتشار ظواهر عدة كالأمية السياسية ومأسسة الجهل وغيرها من الظواهر الاجتماعية والنفسية التي أشار إليها عدد من البحاثة والمهتمين بالشأن العامّ. وبالرغم من صدور عدة دراسات ومؤلفات تنبّه إلى الأزمة التي تعيشها الفئات المهمشة ، والتي تُنذر بحدوث انفجار قريب فإنّ الحكومات المتعاقبة لم تكترث بل إنّها استمرت في التعنّت، وفي رؤية الواقع من زاوية ضيقة تخدم مصالح الأحزاب والشخصيات «المتحكّمة» في خيوط اللعبة السياسية. وهذا السلوك يؤكّد مرّة أخرى، رغبة الماسكين بزمام السلطة في الاستبداد بالرأي، وتحليل الواقع من وجهة نظر محدودة لا تمكّن من النفاذ إلى عمق الظواهر.
لقد تواترت تصريحات الفاعلين السياسيين حول الاحتجاجات الأخيرة، وهي تصريحات تنمّ ـ في الغالب، عن تشبثّ بأنموذج يرسّخ «أبوية الدولة» وتسمح لمن جاءت بهم الصدف إلى عالم السياسية بأن يستمروا في ادعاء امتلاك الشرعيّة، وامتلاك حقّ الكلام نيابة عن الآخرين بل إنّ منهم من يعتبر نفسه قادرا على «وعظ» هذه القوى التي امتلكت الشوارع منذ أيام. ولكن اسأل سياسيّا: ما تعريفك للشباب المحتجّ؟ تراه مغرقا في التعميم. فالشبّاب يمثلون، في نظره، كتلة واحدة متجانسة تؤمن بنفس القيم وتلتقي حول نفس التصورات والمطالب، ولها صفات مشتركة: حبّ المغامرة والمجازفة، عدم القدرة على استيعاب الواقع «الصعب»... بل إنّ الشباب في نظر المعلّقين على الاحتجاجات(من السياسيين/الإعلاميين/المحللين/...) هم من جندر واحد وكأنّه عزّ على هؤلاء الإعتراف بحضور الشابات في الفضاء العمومي، وهو حضور نوعيّ إن كان على مستوى الخطاب أو الحركة أو المواجهة ...
وليس الارتباك في تحديد هويّة الشباب إلاّ علامة على عدم معرفتهم والتواصل معهم فضلا عن صعوبة إدراك الفروق من حيث التصنيف الطبقي، والعمري( المراهقون/الشباب والشابات،) والانتماءات ... وقد نُرجع صعوبة التمييز بين مختلف الحاضرين في فضاءات الاحتجاج إلى استفحال منطق التحيّز: الجهويّ، الحزبي، الأيديولوجي... (شباب النهضة، شباب حزب العمّال...) وهو تحيّز يجعل معرفة المخاطب مقتصرة على من هم من حوله، من يقتسمون معه نفس التصورات والمشاريع... ولا غرابة في ذيوع هذه التصورات في ظلّ انتشار خطاب الاستقطاب الحدّي (شعب النهضة، الظلاميين/الحداثيين...).
وعندما يعتمد السياسي على آليات الفرز والتحيّز والتصنيف بين النحن/الهم تترسّخ تراتبية منتجة للتمييز والوصم. فيُتمثل السياسيون على أنّهم العقلاء والحكماء وأصحاب السلطة المسموعة في مقابل الشباب الغاضب الذي يُتمثل على أنّه المنفلت، الهمجيّ، اللاواعي...
لاشكّ أنّ الفرق واضح بين المحتجين السلميين في شارع الحبيب بورقيبة (من حيث شكل التحرّك، وزمنه النهاري والمطالب والشعارات والخطابات الشفوية...) والمحتجين في بعض الأحياء الذين يؤثرون الكر والفر ليلا، ولا يزعجهم النهب والتدمير بعد أن صار العنف سيّد الميدان. ولكن ثمّة ما يجمع بين المختلفين: إنّه الإصرار على انتزاع الاعتراف حتى وإن اختلفت الأدوات، إنّه رفض لسياسات التنويم والتقزيم والتهميش والحقرة والتعنت... إنّه رفض لكلّ محاولات تحفيز الشبان،والشابات على ترك البلاد أو قطع الوصلة بالأهل والخلان أو... وما الاحتجاج إلا فعل في الواقع قد يكون صاخبا مدمّرا وقد يكون في الغالب، حجّة على تسرّب الوعي إلى الذات واقتناعها بضرورة انتصار إرادة الحياة والوجود على الموت والعدم.