10 محطات في الذكرى العاشرة للثورة التونسية: - V- منوال تربوي جـديـد

هنالك انطباع سائد في تونس أن المدرسة التونسية العمومية كانت أحد أهم مفاخر وانجازات دولة الاستقلال وأنها قامت بمختلف المهام المناطة بعهدتها

من دمقرطة التعليم وجودته إلى حدود تسعينات القرن الماضي ثم بدأ حالها يسوء تدريجيا ثم كادت تنهار خلال هذا العقد الأخير ولا أدلّ على ذلك من وجود أكثر من مائة ألف منقطع عن التعليم سنويا خلال هذا العقد الأول من الثورة التونسية .
نحن أمام مروية سائدة ومهيمنة ولكنها لا تعكس بالمرّة الواقع التاريخي للمدرسة التونسية.إذ تشير كل المؤشرات الموضوعية إلى تواضع أداء التعليم في تونس ونخبويته المفرطة في ذات الوقت منذ ستينات القرن الماضي، ولكن تجد كل النخب صعوبة نفسية وذهنية لرؤية هذا لأن كل أفرادها كانوا قصص نجاح هذه المدرسة وبالتالي تراهم يقرنون بصفة ميكانيكية بين نجاحهم - بل وتألقهم - الدراسي وبين نجاح ونجاعة المنظومة التربوية ككل.
لقد حاولنا أن نبيّن الوجه الخفي للمدرسة التونسية منذ خمس سنوات في سلسلة نشرت بجريدة «المغرب» حول أزمة التعليم في تونس، ونأخذ منها اليوم بعض المعطيات حول التقييم الكمي والكيفي لمنظوماتنا التربوية على امتداد أكثر من نصف قرن .
هنالك دراسة هامة للغاية قام بها البنك الدولي سنة 1975 حول المنظومة التربوية التونسية نجد فيها توصيفا دقيقا لوضعية المدرسة التونسية بعد 18 سنة من الاستقلال.
في السنة الدراسية 1973 /1974 نجد أن نسبة التمدرس في المستويات الثلاثة من مجموع الفتيات والفتيان المعنيين بالدراسة كالتالي:
%88.3 في المرحلة الابتدائية
%19.2 في المرحلتين الإعدادية (العامة والمهنية) والثانوية
%2.5 في التعليم العالي.
ونضيف رقما واحدا يلخص تقريبا كل شيء في تلك المرحلة وهو أن معدل السنوات التي يقضيها التلميذ في أول السبعينات للحصول على شهادة ختم الدروس الابتدائية (6 سنوات تعليم ) كان يتجاوز 10سنوات !! علاوة على التفاوت الجهوي الصارخ وعلى عدم امتلاك العدد الأكبر من تلاميذ السنة السادسة ابتدائي الحد الأدنى المطلوب لفهم نص بسيط باللغتين العربية والفرنسية ..
لاشك أن من تمكن من الحصول على شهادة جامعية آنذاك كانت تفتح أمامه كل أبواب الشغل الملائم والنجاح الاجتماعي ..ولكن كم كانت نسبة هؤلاء ؟ ! على الأرجح في حدود %1 من شابات وشباب بداية السبعينات .
صحيح أن عدد المترسبين من مختلف مستويات التعليم ما قبل الباكالوريا هو ما بين المائة ألف والمائة وعشرة آلاف تلميذ في هذا العقد من الثورة وبنسبة تمثل %5.2 من جموع رواد المدارس.
ولكن هذه النسبة كانت أرفع بوضوح قبل الثورة ووصلت إلى %7.5 في موسم 1989 /1990 وبلغ عدد المتسربين رقمه القياسي في السنة الدراسية 2004 /2005 متجاوزا عتبة المائة وأربعين ألفا .
أما عندما نقارن المستوى الكيفي لتلاميذ مدارسنا بنظرائهم في العالم نلاحظ أن كل الترتيبات الدولية التي شاركنا فيها منذ عشرين سنة،وخاصة البرنامج الدولي لمتابعة مكتسبات التلاميذ (PISA) التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي (OCDE) ،قد وضعتنا في أسفل الترتيب لا فقط مقارنة بالاقتصاديات المتقدمة ،بل وكذلك مقارنة بالبلدان الشبيهة لنا وأن نسبة التلاميذ المتفوقين جدا في سن الخامسة عشرة هي دون %1 بينما تتجاوز هذه النسبة %50 في شنغهاي مثلا ..
إن معرفة دقيقة بالواقع التاريخي والحالي للمدرسة التونسية ضرورية حتى نتعرف على مواقع الخلل وحتى يكون الإصلاح ناجحا وناجعا .
هنالك خيط جامع بين كل الدول التي حققت خطوات تنموية عملاقة خلال هذه العقود الأخيرة. ثورة مدرسية قفزت بالقدرات والمهارات الذهنية للتلاميذ منذ السنة الأولى من التعليم الابتدائي وجعلت دولا ككوريا الجنوبية والفيتنام وخاصة سنغفورا تتفوق مدرسيا على جلّ الدول الغربية إن لم نقل كلّها.
على ماذا تأسست النهضة المدهشة لبلد كسنغفورا؟
تأسست على مخطط وطني للرياضيات منذ سبعينات القرن الماضي كان هدف الدولة فيه أن يتفوق كل بنات وأبناء سنغفورا على كل تلاميذ العالم في أم العلوم ،وقد حصل هذا بالفعل وأضحت هذه المدينة /الدولة ذات الخمسة ملايين نسمة الأولى عالميا منذ عقد من الزمن في كل التصنيفات الدولية لمستوى التلاميذ في الرياضيات والعلوم والقراءة.
ما الفرق بيننا وبين سنغفورا أو كوريا الجنوبية أو حتى الفيتنام ؟ الفرق الأساسي أنهم خططوا للتحسين المستمر لقدرات وكفاءات التلاميذ في المعارف الأساسية : تحسين يتجاوز حدود الوطن ليتفوق دوليا ولتتأسس عليه اقتصادياتهم بالارتقاء المستمر في سلم القيم بدءا من التقليد والمناولة وصولا إلى التفوق الصناعي والخدماتي والريادة في اقتصاد الذكاء.
أما نحن فلم تنفك مقاربتنا من أمرين : الكمّ والايدولوجيا ..الكم بالحرص – المحمود ولاشك– على تمدرس العدد الأكبر من بناتنا وأبنائها والايدولوجيا بصراعاتنا قبل الثورة وبعدها على المضمون الفكري والقيمي للتدريس،أما كيف يتفوق كل التلاميذ ومنذ السنة التحضيرية في الرياضيات ثم في التفكير الرياضي من البسيط إلى المعقد ومن الملموس إلى المجرد وكيفية استعمال التلميذ لكل معارفه لحل مشكلة معينة لا فقط استعادة الدروس أو الدرس الأخير.. كل هذا ترك لاجتهاد المربين وتحت شعار التبسيط ومزيد التبسيط حتى لا تمثل الرياضيات عائقا أمام جموع التلاميذ وبإطار تربوي لم يكوّن على عشق الرياضيات والتفوق فيها والقدرة على تبسيط المفاهيم والتدريب على التفكير الرياضي.. كل هذا كان متروكا للاجتهاد الخاص دون خطة عمل وتكوين وتأهيل وأهداف ومحاسبة،بل دون الإيمان بان التفوق في الرياضيات متاح لكل التلاميذ وان هدف المدرسة هو تحقيق هذا التفوق منذ نعومة أظفار التلاميذ – ومثل هذا يقال أيضا على اللغة عربية كانت أم أجنبية والعلوم بتفتيح الأذهان والتدريب على أبجديات التفكير العلمي بوضع الفرضيات ونقدها وربط الفرضية بالنتيجة والمقارنة بين النموذج الرياضي والتجربة العملية، كل هذا لا تقوم به المدرسة التونسية إلا لمامًا وكأن خلق التفوق ليس من مهامها الأساسية بل ترك ذلك للإعداديات والمعاهد النموذجية وللتلاميذ المتفوقين بفضل محيطهم الأسري وبالدروس الخصوصية فكانت النتيجة التالية : من أصل مائة تلميذ ينطلقون في الدراسة خمسون فقط يحصلون على الباكالوريا منهم واحد فقط على الأقصى من المتميزين جدّا ومن له القدرة على المنافسة الدولية وخمسة من المتميزين على المستوى الوطني والبقية يتركون إلى يناصيب الحياة وقدرة المحيط العائلي على الإسناد.
مشكلة تونس أننا لم نبدأ بعد في التفكير الجماعي في إصلاح منظوماتنا التربوية من هذه الزاوية الأساسية : كيف نحقق التفوق للعدد الأكبر من التلاميذ ويكفي أن نطالع «الكتاب الأبيض ،مشروع إصلاح المنظومة التربوية في تونس « الذي أصدرته وزارة التربية في ماي 2016 لندرك كم نحن بعيدون كل البعد عن كل هذا .
يتحدث السياسيون والنشطاء النقابيون والجمعويون على منوال تنموي جديد ولا يربطون هذا بصفة واضحة بضرورة المنوال التربوي الجديد كشرط إمكان لكل ارتقاء في سلم القيم وفي موقع تونس في المنافسة الاقتصادية والعلمية العالمية الشرسة .
عندما ننظر الى منظوماتنا التربوية كما ننظر إلى فريق كرة قدم سندرك أن النجاح لا يتمثل في وجود نجم واحد بل كوكبة من النجوم ضمن إستراتيجية جماعية لا تقتل المواهب الفردية بل توظفها للارتقاء بالأداء الجماعي .. عندها فقط ندرك أن المربي هو اخطر وظيفة في المجتمع وانه لا مناص من الاستثمار الكثيف في هذه المهنة الشريفة لا فقط بزيادة قوية في التأجير ولكن معها ومشروط بها الرفع القوي من الأداء بالقدرة الفردية والجماعية على خلق جيل من المتفوقين جدّا في المعارف الأساسية : الرياضيات واللغات والعلوم ،عندها وعندها فقط ستصبح تونس سنغفورا إفريقيا والعالم العربي ..ولكن هذا يشترط لوحده ثورة ذهنية وثقافية هائلة مازالت لم تتوفر شروطها بعد ..

(يتبع)
VI- الدولة المغذية أم الدولة المخططة ؟!

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115