لنتصور لحظة واحدة أن تونس بصدد إحياء الذكرى المائة لثورتها ذات 17 ديسمبر من سنة 2110..ترى ما عسى أحفادنا يتذكرون ويذكرون من تاريخهم الحديث والمعاصر؟
سيذكرون حتما ان بلادهم قد استعمرت سنة 1881 واستقلت سنة 1956 وقامت بثورة ديمقراطية سنة 2011 مع بعض الأحداث الأخرى الواقعة بعد هذا العقد الأول من الثورة والتي قد تكون هامة ومصيرية بالنسبة اليهم كمساهمة تونس في رحلة فضائية معمورة في أقاصي مجموعتنا الشمسية مثلا ..
ماهي الشخصيات التي قد تخلّدُ في الذاكرة الوطنية في بداية القرن الثاني والعشرين ؟ الحبيب بورقيبة بالتأكيد ومحمد البوعزيزي بلا ريب و.. عالم الفضاء التونسي المساهم في هذه المغامرة العلمية العالمية ..أما رؤساء ونواب ونخب هذا العقد الأول من الثورة فقد تجدهم في فقرات معدودات في الدراسات التاريخية المتخصصة حسب الأرجح ..
نعود إلى هذه العشرية ولنسع لرؤية تونس من علٍ مجتنبين كل تشويش تحدثه الضوضاء السياسية والإعلامية وجلبة الاحتجاجات والصراعات اليومية..
قد يبدو إصرار دستور 2014 على وضع تاريخين للثورة التونسية (17 ديسمبر 2010 - 14 جانفي 2011) غريبا بعض الشيء عند دراسي تاريخنا في القرن القادم ولكن هذا الإصرار الصائب على وضع تاريخ مزدوج إنما جاء للتأكيد على وجود لحظتين متزامنتين ومتلازمتين ولكنهما مختلفتان في الكينونة والسيرورة والمآل ..
ماذا تعني لحظة 17 ديسمبر لو جرّدناها من حدثيتها الطارئة ؟ إنها لحظة انفجار غضب فردي مطلق عبّر عنها بطريقة مسيحوية (نسبة إلى المسيح عيسى) الجسد النحيف لمحمد البوعزيزي عندما التهمته النيران في عملية تمرد مطلق على وضع يومي ينبغي أن يزول ..إنها لحظة التقاء حدّي الإنسان : الحياة والموت ، الكينونة والفناء إلى درجة يستحيل معها فهم الحدّ الأول دون التعبير عنه بالحدّ الثاني ..إنها النار الحارقة القاتلة ولكنها النار المطهّرة المنبئة بميلاد جديد..
لهذا ، ولهذا فقط ، سيبقى جسد محمد البوعزيزي خالدا في الذاكرة الوطنية والعالمية لأنه الجسد الذي جمع وجمّع حدّي الوجود في لحظة تستعصي على كل فهم سببي لان الحدث (événement) تحوّل طفرة واحدة إلى «المايحدث» (avènement).
هذا الانبجاس لو نظرنا إليه في حدّ ذاته يكون من صنف اللامقول (indicible) على حسب عبارة الفيلسوف العظيم لودفيتش فيتنشتاين ..17 ديسمبر 2010 انطلق فقط عندما أعطى أهالي مدينة سيدي بوزيد وهم تحت هول وصدمة ما يرون من احتراق جسد البوعزيزي في الفضاء العام معنى سياسيا واجتماعيا وإنسانيا لهذا «المايحدث»:شاب تهينه السلطة المحلية وتزدريه وترفض الإنصات الى طلبه البسيط: العيش القانوني كبائع متجول بما يكرر للمرة الألف، بل المليون إهانة شباب المناطق الداخلية وعدم الاعتراف بما يمكن أن يضيفوه لأنفسهم وذويهم وبلدهم والتعامل «الاستعماري» الجديد للسلطة مع مناطق التخوم كمجال لفرض سطوتها ونهب خيراتها وتحقير أهلها وعدم الاعتراف بحق هؤلاء المواطنين بالاقتسام العادل للثروات المادية والسلطة المعنوية بينهم وبين المركز بإدارته ووسائل قمعه ونخبه المالية والاقتصادية والثقافية ..
ذلك هو 17 ديسمبر كما يعيشه في أجسادهم وأذهانهم أهالي مناطق التخوم ، كل مناطق التخوم حتى لو كانت في قلب العاصمة أو المدن الكبرى الساحلية : فالتخوم أو الهوامش ليست مفهوما جغرافيا فحسب (ففي العاصمة تخوم وفي سيدي بوزيد مركز) بل هو كذلك وعي جماعي وما تحت الهوية الوطنية يتغذى من عقود ،بل من قرون ، من النمو اللامتكافئ ومن تعطل المصعد الاجتماعي بعد الاستقلال لهذه الجهات بالذات ومن إفراغ فكرة تساوي الفرص من كل مضمون جدي ..
لا يهم إن كانت في هذا التوصيف معطيات عامة غير دقيقة أو حتى مخالفة للواقع (كالحرص الواضح لدولة الاستقلال لتنمية هذه الجهات) فالأساسي دوما هو في تشكل الوعي الفردي والجماعي عبر تمثل ما ، وهذه هي تمثلات من يرون في 17 ديسمبر اليافطة الأبرز لهويتهم الخاصة ..
ما هو 14 جانفي إذن ؟
14 جانفي هو تلقف نخب المركز – بالمعنى الواسع لمفهوم النخب – لغضب التخوم بدءا بالاعتراف – الغامض – به وصولا إلى صياغته في حركة احتجاجية جوهرها الديمقراطية السياسية والاجتماعية ضد نظام الاستبداد والفساد ،فنخب المركز (القيادات النقابية والسياسية والمثقفون والمحامون والجامعيون وشباب الجامعات والمهن الحرّة والإعلاميون وأجزاء هامة من الطبقة الوسطى العليا ومن الطبقة الميسورة) لم ترد ان ترى في صرخة 17 ديسمبر صرخة اعتراض ضد النظام ونخب المركز كذلك بل فقط حركة شبابية احتجاجية ضد حكم العائلات – الاستبدادي المافيوزري وكذلك فان قيادات احتجاجات 17 ديسمبر وبصفة عفوية أو مقصودة لم تعبر عن غضبها المزدوج فحصل تحالف بين لحظتي 17 ديسمبر و14 جانفي ضد العدو المشترك ..حلف مقدس إلى إسقاط النظام، وهذا ما بدا يحصل بالفعل منذ عشية 14 جانفي 2011 عندما هرب بن علي إلى خارج حدود الوطن ..
لو لا التحالف والتضامن بين هاتين اللحظتين الثوريتين لما سقط النظام ،ولكن ما حصل مباشرة بعد سقوط النظام هو الانفصال التدريجي بين 17 ديسمبر و14 جانفي فغلبت المطلبية السياسية والاجندا الانتخابية والحزبية على هذا الفهم العميق للتقاسم المادي والمعنوي للثروة وللسلطة وبقي التناقض قائما بين التخوم والمركز حتى عندما وصلت نخب جديدة إلى الحكم انحدر بعضها من التخوم بعد انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011..
هل أن نخب المركز قد خشيت من مطلب الاقتسام هذا فانغلقت حول نفسها أو أنها لم تتمكن من استنباط المسار الإصلاحي الضروري الذي يتحقق فيها هذا التقاسم بخلق شروط تنمية إدماجية يخرج الجميع منها فائزين ؟ لعل مؤرخي وعلماء اجتماع تونس في القرن الثاني والعشرين هم الأقدر على إعطائنا التأويل الأفضل ..
ويمكننا أن نضيف إلى هذا كذلك انجذاب جزء من نخب 17 ديسمبر إلى المركز سعيا منها إلى افتكاك مواقع ، ومنافع أيضا ، في انتظار هذا التقاسم القادم ..
يكفي فقط هنا أن نرى ارتياب المرشح قيس سعيد في 2019 أثناء حملته «التفسيرية» من الدولة المركزية ومن الديمقراطية البرلمانية وتركيزه على «التصعيد» الديمقراطي من القاعدة ثم خطابه كرئيس دولة حيث لا نسمع إلا كلمات « دولة واحدة» و«رئيس دولة واحد» لندرك مدى الجاذبية القوية للمركز حتى مع من يعتقدون أنهم هم نبض 17 ديسمبر وصوته القوي ..
بصفة شبه ميكانيكية حصل إذن الانفصال بين 17 ديسمبر و14 جانفي مباشرة بعد أن أنجز تضامنهما السابق مهمته ثم تحول التباعد إلى ريبة وتنافر وخوف من الحركات الاحتجاجية المطالبة بالاقتسام المادي والمعنوي ،وتدريجيا خلق التنافر رغبة عند جزء من نخب المركز في قمع أصوات وحركات الاحتجاج بتعلة «هيبة الدولة» أي هيبة المركز ..أما نخب التخوم فأصبحت من جديد لا تميز بين الدولة المركزية ونخبها وأنها لا تفهم إلا لغة موازين القوى وانه من حق المهمشين افتكاك حقوقهم مهما كانت الوسائل المستعملة ،وما «غلق الفانة» إلا شكل جديد – وغير نهائي – في هذا المسار .
ولكن الشكل الأخطر في العلاقة بين هاتين اللحظتين هو انغلاق كل واحدة عن الأخرى وسيادة التجاهل بينهما بما يعسّر كثيرا بناء مروية وطنية مشتركة مؤسسة على شعور موحد بالانتماء لوطن واحد،وطن يسمح بحركية اجتماعية واقتصادية ولا يجعل الثروة والتفوق حكرا دوما على نفس الفئات والجهات .
يمكننا أن نقول هنا أن الإخفاق الأكبر (نرجو أن يكون مؤقتا) لهذه العشرية الأولى للثورة التونسية هو عدم قدرة نخبها على المحافظة على هذا التضامن بين 17 ديسمبر و14 جانفي لا فقط لإسقاط نظام تسلطي مافيوزري بل لبناء تونس جديدة قائمة على هذا التقاسم الفعلي المادي والمعنوي ..
يتبع
II- الحريات الفردية والعامة وسوء التفاهم التاريخي