لمجرد تكرارها والتصديق بها والاعتقاد في ثباتها دون نقدها بتبيان شروط إمكانها من عدمه ..
من بعض هذا الظنّ أن الأحزاب السياسية هي عماد الديمقراطية وانه دون أحزاب، أو بأحزاب مهمشة لا يمكن الحديث عن الديمقراطية ،وأن الدور «الطبيعي» للحزب هو أن يكون في توتر (tension) مع الحكم، فإنّ فاز يحكم وإن انهزم يعارض وما سوى ذلك فاستبداد مقنع ..
قد يبدو هذا «الظنّ» منطقيا إلى حدّ بعيد ولكنه يصف الأشياء المعتادة في العالم الديمقراطي دون القدرة على الولوج إلى لبّها..
بداية الدعامة الأساسية للديمقراطية ليست الأحزاب بل الفكرة القائلة بالمساواة التامة بين البشر بغض النظر عن الجنس واللون والدين وبناء عليه تكون الديمقراطية هي التعبير عن الإرادة الجماعية لمواطنين متساوين في الحقوق الطبيعية والشكل الذي تستقيم به هذه الإرادة الجماعية هو التصويت على قاعدة : لكل إنسان واحد صوت واحد في استعادة سياسية لهذه المساواة الأصلية بين البشر ..
فالأساس السياسي للديمقراطية هو الانتخابات لا الأحزاب ، ولقد شهدت البشرية عمليات انتخابية قبل ميلاد المنظومة الحزبية في شكلها العصري .ثم تأسست على فكرة الانتخابات ما يسمى بالديمقراطية التمثيلية وهنا بدأت تتشكل هيئات تتنافس على الانتخابات ونشأت الأحزاب العصرية في الدول الديمقراطية.
لقد تدعم النظام الحزبي ولاشك بتعميم الانتخابات واضحى جهازا مؤسساتيا من خلاله يتجلى الاختيار الشعبي ولكن المنظومة الحزبية كانت دائما محل نقد وانتقاد باعتبار أنها تفرز نخبة محترفة احتكرت لفترة طويلة حق التكلم باسم الشعب والتعبير عن الإرادة العامة ، وهذه المنظومة تشكو اليوم من أزمة عميقة لا في بلادنا فحسب بل في كل البلدان الديمقراطية حيث يتنامى الإحساس بأن هذه النخبة السياسية المتنافسة على أصوات الناخبين سرعان ما تخون كل وعودها علاوة على العلاقات المسترابة بينها وبين عالمي المال والإعلام والفضائح المدوية التي دكّت مصداقيتها الأخلاقية ولم تنج منها لا أحزاب اليمين ولا أحزاب اليسار ..
أزمة المنظومة الحزبية في الغرب الديمقراطي نعيشها اليوم بكل قوة في تونس وتقريبا بكل تمظهراتها ..فساد بيّن أو مفترض في أجزاء من الطبقة السياسية نفوذ قيادات الأحزاب التي تتصرف في التفويض الشعبي وفق مصالحها الفئوية وأحيانا الشخصية وصعود وتنامي التيارات الشعبوية التي تجعل من خيانة الأحزاب / النخب احد محاور دعايتها الأساسية..
كل هذا لنقول بأن المنظومة الحزبية الحالية اليوم مهددة في وجودها المركزي ولاشك وما الشعبية الحسية وابتهاج العديدين بقرار المكلف بتشكيل الحكومة بالابتعاد عن الأحزاب وبتكوين حكومة تكنوقراط إلا دليل إضافي عن الرفض الواسع لمنظومة الأحزاب واختزالها عند قطاعات هامة من الرأي العام في الصراع على المناصب وتقاسم منافع السلطة.
والأحزاب هنا ليست سواسية في الرفض الواسع بل هنالك من يستفيد منه إذا ما طرح نفسه كبديل جذري عن المنظومة الحزبية برمتها ومعارض شرس لأبرز رموزها ونحن نتحدث هنا عن الدستوري الحر وزعيمته عبير موسي التي أضحت منذ حوالي السنة أحد أهم شخصيات تونس اليوم ..
ومنظومة الأحزاب مهددة من خارجها من تيارات هلامية شعبوية أهمها متمحور الآن حول ما يسمى بمشروع قيس سعيد والذي لا نكاد نعلم عنه شيئا سوى كفره البواح بمنظومة الأحزاب وبالديمقراطية التمثيلية في تصور يراوح دون الوعي بالتناقض البيّن بين سلطة تأتي من تحت شعار «الشعب يريد» وسلطة مركزية مهيمنة من فوق يمثلها رئيس الدولة المنتخب من الشعب .
ولكن سيتضح للجميع بأن كل هذه المشاريع السياسية المناهضة اليوم لمنظومة الأحزاب إنما هي بدورها مشاريع أحزاب كذلك ما دام الحزب يقوم على ثلاثية أساسية : فكرة وقيادة وتنظيم، وهذه المشاريع «البديلة» تتوفر على هذه الثلاثية باقتدار كبير ..
نعلم جميعا أن الحدث الثوري يكثّف الزمن بشكل استثنائي، ولقد حصل هذا التكثيف في منظومة الأحزاب إذ انتقلنا في اقل من عشرية من الانبهار المطلق إلى ما يشبه الطلاق البائن..
الأزمة هي دوما حمالة لتجاوزات جديدة، وأزمة منظومة الأحزاب لا تعني انهيارها بل ضرورة تجديد الأدوات والخطاب وطرق العمل أي تجديد جوهري للفعل السياسي اليوم ..
المهم على كل أن البلاد دخلت في مرحلة جديدة سواء منحت الثقة لحكومة المشيشي أم ذهبنا إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها: تونس لم تعد تحتمل فعلا سياسيا بهذه الشاكلة وأمام الأحزاب الحالية والقادمة حلان لا ثالث لهما : التجدد والتأقلم أو الجمود والاندثار.
على هامش حكومة الكفاءات المستقلة: هل أن المنظومة الحزبية في خطر ؟
- بقلم زياد كريشان
- 10:22 12/08/2020
- 2771 عدد المشاهدات
الظنّ (la doxa)، وبعض الظنّ إثم ، هو تلك المعتقدات التي يخال أصحابها أنها حقائق ثابتة لا يرقى إليها الشك