هواة.. انتهازيون.. شعبويون.. متناحرون.. تائهون ... عندما تصبح الطبقة السياسية خطرا على البلاد !

لو نعود بالذاكرة إلى الأيام والأسابيع الأولى التي تلت بداية انتصار الثورة التونسية في 14 جانفي 2011 وإلى ذلك التفاؤل الذي

عمّ الجميع بغد أفضل ومستقبل أحسن وبلاد أعدل وأجمل ووددنا النظر إلى هذه السنوات العشر/ العسر لأدركنا حجم الإحباط الذي ألمّ بجلّ فئات المجتمع.. إحباط أوصل العديدين إلى الكفر بمخرجاتها والحسرة على فترة الاستبداد واستقرارها النسبي..
في انتخابات 2019 وجه الناخبون صفعة قوية لكل منظومة الحكم ما بعد الثورة - وإن كان ذلك بنسب متفاوتة - وصوت لقوى من خارج المنظومة بل تعاديها بوضوح خاصة في الانتخابات الرئاسية وبدرجة أقل في الانتخابات التشريعية.. وأكبر دليل على موجة الرفض هذه تقدم الحزب المشارك في كل الحكومات (حركة النهضة) كأحد ضحايا هذه العشرية معربا في حملته الانتخابية على ندمه من فترة «التوافق» ورغبته في الانخراط مجددا في «خط الثورة»...
وجاءت النتيجة قوية وقاسية: إيذانا مطلقا بالفشل النهائي للمنظومة السياسية برمتها أحزابا وشخصيات.. منظومة أضحت تهدد بصفة جدية حاضر ومستقبل تونس وترتهن البلاد في «لعبة» يتخاصم فيها هواة مع شعبويين مع انتهازيين يضاف إليهم عدد من المتناحرين التائهين..
لنقلها بوضوح: الإشكال لا يكمن في الأشخاص، ففي المنظومة السياسية عدة شخصيات لها حس وطني مرهف وكفاءة واقتدار في مجالات تخصصها أو حتى في إدارة الشأن العام.. الإشكال كل الإشكال في المنظومة وفي الديناميكية السلبية التي فرضتها على الجميع..
مشاكل تونس معلومة لدى الجميع يمكن أن نلخصها: دولة ضعيفة ونمو هش وعجز عن القيام بالإصلاحات الضرورية لاعادة بناء كل منظومات البلاد على قواعد عقلانية. والمطلوب واضح منذ كوارث حكم الترويكا الأول: ابعاد الهواة والعقائديين والانتهازيين من أي حزب كان عن الحكم والتفرغ لإنقاذ البلاد وبذل قصارى الجهد لارجاعها إلى العمل والإنتاج والاجتهاد فيهما فهما الثروة الوحيدة التي نملكها في هذه البلاد...
مقابل هذا التشخيص شبه الإجماعي ماذا عرضت لنا المنظومة السياسية منذ 2011 إلى حدّ الآن حكما ومعارضة، أحزابا وشخصيات وتيارات: في أحسن الحالات الهواية والأيديولوجيا والتناحر إلى حدّ التنافي وفي أسوئها الانتهازية والنظرة الغنائمية للحكم.
السياسيون بشر فلا هم ملائكة ولا هم شياطين، فلمَ لم يتواضعوا على المصلحة العامة ولمَ يعملوا كل من موقعه، على إنقاذ البلاد؟
هنا تتدخل «المنظومة» التي ينخرط فيها كل سياسي حتى لو لم يكن متحزبا بالمعنى التقليدي للكلمة، لقد انبنت هذه المنظومة على الصورة التالية: إنقاذ البلاد يتم عبر إغراق الخصم/العدو، وتنسى الأدمغة المفكرة في مختلف مكونات هذه المنظومة أن الكل في حالة صراع ضدّ الغرق وأن الجهد المبذول لإغراق الخصم/العدو هو تمهيد للغرق الذاتي.
يكفي أن ننظر إلى ما يجري خلال هذه الأيام الأخيرة لندرك حجم الكارثة المقبلة: إقدام حركة النهضة وحلفاؤها على التصويت على مشروع قانون يسمح لمن طالت بطالتهم بالانتداب المباشر ودون مناظرات في القطاع العام على امتداد أربع سنوات واضطرار معارضي النهضة رغم تحفظاتهم على التصويت بصفة شبه إجماعية على مشروع القانون هذا الذي يفرض هلى دولة منهكة انتداب ما بين ستين ألف إلى حوالي مائة وخمسين ألفا في القطاع العام على أربع دفعات سنوية وذلك رغم احتجاج الحكومة ووضوح مناقضة هذا المشروع للفصل 63 من الدستور الذي ينص بصريح العبارة «مقترحات القوانين ومقترحات التعديل المقدمة من قبل النواب لا تكون مقبولة اذا كان اقرارها يخل بالتوازنات المالية للدولة التي تم ضبطها في قوانين المالية» وهذا يعني ببساطة تعريض البلاد لمرحلة عارمة من الاحتجاجات لو لم يتضمن مشروع قانون المالية القادم لسنة 2021 بداية التطبيق المكثف لهذا الاجراء.. وهذا مثال جيد على اعتماد مهدد بالغرق (النهضة) على اغراق منافسيه (الحكومة المنفلتة عن ارادته) حتى لو كان الثمن اغراق البلاد كلها!
من جهة أخرى ما يقوله رئيس الدولة عن «المؤامرات» وعن سرقة المال العام، بل سرقة الأموال المرصودة للمشاريع التنموية أي سرقة الميزانية وهذا ما لم يحصل أبدا في تاريخ تونس المستقلة منذ سنة 1956 إلى حدّ اليوم وما ينتج عن ذلك من نقمة متزايدة وايهام بأن البلاد ثرية ولكن أموالها قد نهبها الفاسدون السياسيون والذين يحرقون البلاد لتحقيق غايات سياسية...
لسنا ندري هل يدرك رئيس الدولة كل الآثار الممكنة لتصريحاته؟ وهل يعتقد أنه بذلك يسهم في حث التونسيين على العمل وبذل الجهد أم أنه يعدهم بجنة أرضية سرقها الفاسدون؟
ثم عندما نرى هذا التناحر والتنافس المطلق بين مختلف مكونات الطيف السياسي وثقافة «الفيراج» التي تحشد الأنصار من أجل الحسم النهائي مع «الأعداء» كمدخل وحيد لـ«إنقاذ» البلاد من «الخونة» اخوانا كانوا أو دستوريين أو غيرهم..
ثقافة المنظومة السياسية لم تستوعب بعد أن زمن الزعيم الملهم والقائد المخلّص قد ولت وانتهت وأن الاختلاف الحاد في الرأي والموقف والتشخيص والحلّ لا يعني التنافر الكلي والعمل على إلغاء وجود الخصم.
هذه الثقافة الدفينة للمنظومة السياسية بكل مكوناتها هي التي تقف اليوم أمام كل بناء مشترك جدي، فهي تغذي حرب الطوائف والتناحر الداخلي بدلا من توسيع المشترك الوطني ومن الانكباب العاجل على مشاكل البلاد الحقيقية.
يبدو أن الميكانيزمات الذهنية والمادية للمنظومة السياسية أقوى بكثير من قدرة أفرادها على درء مخاطرها، وهذه الميكانيزمات تشتغل اليوم بالسرعة القصوى نحو إعلان الانهيار التام والنهائي، والسؤال الوحيد الجدي هو هل أن هذا الانهيار للمنظومة السياسية فقط أم للبلاد بأسرها ؟!

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115