أحيانا تخفي عنا جزئيات الصراع السياسي والتراشقات اليومية رهاناته الحقيقية.. فاليوم هنالك أربعة لاعبين أساسيين لكل واحد منهم استراتيجية مختلفة.
اللاعبون هم الرؤساء الثلاثة: قيس سعيّد والياس الفخفاخ وراشد الغنوشي تضاف إليهم عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحرّ.
• استراتيجية التغيير الجذري لقواعد اللعبة:
وهي الاستراتيجية التي يعمد إليها قيس سعيّد منذ حملته التفسيرية/ الانتخابية وعمادها البرنامج الشعبوي التقليدي: النخب خانت الأمانة والتمثيل تدجيل والشعب هو مالك الحقيقة والفساد قبل الثورة قد استمر بعدها والمتهم هنا هي كل الأحزاب والشخصيات التي انخرطت في لعبة الديمقراطية التمثيلية ولا تعود للشعب في كل قراراتها.
والسهام الأساسية هنا متجهة للبرلمان وللقوة السياسية الأبرز فيه حركة النهضة ورئيسها، ورئيس البرلمان، راشد الغنوشي الذي يبدو كالعائق الأساسي أمام اعطاء الشعب حقه ومقاومة فساد الفاسدين.
والحلّ النظري هنا هو في التغيير الجذري للنظام السياسي، ولكن كيف ومتى وبأية وسائل؟ هنا لا نجد ولو بداية جواب اذ المقصود في ذاته ليس الحلّ بل «هرسلة» المنظومة الحالية ودفعها إلى الخطإ.
• استراتيجية الجرّافة:
هي استراتيجية الحزب الدستوري الحرّ ورئيسته عبير موسي والتي تعتبر أن كل المنظومة التي أفرزتها الثورة هي منظومة الخراب وأن محورها وعنصر «الشر» فيها هو «تنظيم الاخوان» أي حركة النهضة و«مرشدها» راشد الغنوشي.
وتهدف استراتيجية الجرّافة الى الغاء كل فضاء سياسي ممكن في هذه المعركة بين النهضة والدستوري الحرّ باعتبار أن هذا الصراع هو وحده الحقيقي والفعلي وأنه على كل القوى السياسية والاجتماعية أن تصطف إما مع «الاخوان» ومنظومة الخراب أو مع «الدولة الوطنية» وعبير موسي وأنه لا مجال في هذه المعركة المصيرية لموقف ثالث أو لربوة ما.
• استراتيجية الحماية المتبادلة واحتلال موقع الصدارة:
وهي استراتيجية حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي والتي تدرك أن حاضرها ومستقبلها يكمن في إبرام مصالحة مع الجزء الذي يقبل بها من التيار الدستوري والذي يكون قادرا على تمثيل قطاع هام من المواطنين.. فمستقبل النهضة ليس في تحالفها مع أحزاب «الخط الثوري» أو اليمين الراديكالي، كما كانت تعتقد ذلك في البداية، بل مع أهم طرف «غير استئصالي» في «المنظومة القديمة» وكان ذلك كذلك مع نداء تونس ثم محاولة عقد نفس الصفقة مع تحيا تونس والآن هي ترى في قلب تونس الطرف الأكثر تمثيلية للشق الدستوري غير الاستئصالي، وهاجس النهضة الأساسي هو من التيارات القصووية الشعبوية لأنها قد تنسف النظام البرلماني وحتى الديمقراطية ذاتها وتلغي بالتالي النهضة من المشهد وكذلك من التيار الدستوري «الاستئصالي» الذي تمثله عبير موسي وإن كنا لا نستبعد، غدا، أي بعد سنوات من حصول بعض التقارب لو تمكن الحزب الدستوري الحرّ من أن يصبح القوة الأولى أو الثانية في البلاد.
• استراتيجية الانتظار وربح الوقت:
وهي الاستراتيجية التي سيضطر إليها رئيس الحكومة الياس الفخفاخ فهذا الأخير يدرك جيدا أنه أصبح لاعبا أساسيا في السياسة التونسية بمحض الصدفة الى حدّ كبيروأنه رغم كونه أصبح اليوم أقوى رجل في الدولة إلا أن هشاشته السياسية كبيرة للغاية فهو لا يتمتع بأية شرعية انتخابية من أي صنف كانت وهو اليوم مطالب بألا يخسر دعم رئيس الجمهورية وأن يحافظ على الحدّ الأدنى من دعم البرلمان، أي من دعم رئيس حركة النهضة وهو يعلم أيضا أنه سيمشي على حقل ألغام وأن من يريدون رأسه سيزداد عددهم كلّما ازداد مكوثه في القصبة. الياس الفخفاخ أمام مفارقة لا فكاك له منها فالنجاح عنده ينبغي أن يمرّ إما عبر ارضاء الجميع وعدم الاقدام على أي عمل من شأنه أن يغضب طرفا سياسيا أو نقابيا ذا تأثير، أي استراتيجية مراوحة نفس المكان للنجاح الوقتي فالانهيار بعده أو الإقدام على الاصلاحات الضرورية التي تحتاجها البلاد وعندها تقوى حظوظ سقوطه أو اسقاطه في منتصف الطريق..
الياس الفخفاخ اليوم أمام متلازمة يوسف الشاهد، فهل سيتعظ من أخطاء سلفه أم سيسلك نفس الطريق ظنا منه بأنه أكثر حيلة ودهاء؟
ذلك هو السؤال..
هنالك إشكال وحيد في صراع هذا الرباعي: أن تفقد تونس خماسية أخرى..