لا إنقاذ ولا نهوض دون التصــالح مع النجـــــاح

يبدو أن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والذهنيـــة لأزمة «الكوفيد 19» في بلادنا ستكون أعمق وأهم بكثير من الآثار الصحية

لهذه الجائحة والتي آخافتنا كثيرا في البداية على سلامة وصحة مواطنينا.
اليوم والجانب الصحي من الأزمة يكاد يكون وراءنا (رغم أن الحذر والتحوط مازالا واجبين علينا) سنبدأ في مواجهة كل الارتدادات لهذا الوباء ولعلنا اليوم، مرة أخرى، أمام معضلة الاختيارات قبل مشاكل القرارات..
هنالك وجهة نظر في بلادنا -وفي العالم بأسره- أنه أمام كل أزمة، وحتى دون ذلك، علينا أن نأخذ من الأغنياء (المتماهين عندنا مع أصحاب العمل) وأن نوزع ما أخذناه منهم على الفقراء في استعادة معاصرة لقصة «روبن هود» وكما قال ذلك بعض كبار المسؤولين في الدولة: على أصحاب المؤسسات أن يتبرعوا وإلا .... قبل أن يتمّ تعديل بعض الأوتار الحكومية فيما بعد..

عند بعض مواطنينا، وبعض البشر عامة، النجاح -عامة- والاقتصادي بصفة خاصة مستراب وهو نتيجة فساد ما أو سرقة أصلية، اذ النجاح المستحق - إلى حدّ ما - هو النجاح المدرسي بالنسبة لأطفال الطبقات الضعيفة والوسطى فقط لا غير..
لا جدال في أن بعض الثروات قد تكدست بغير موجب حق وأن بعض أصحاب المؤسسات لا يعيرون أي احترام للحقوق المادية والمعنوية لأجرائهم وأن النجاح قد تمت محاولة الاستحواذ عليه من قبل بعض العائلات والجهات وحرمت منه قطاعات واسعة من الفئات والجهات، وأن من أوكد الاصلاحات وأهمها هو كسر هذه السلاسل الاحتكارية وارجاع النجاح بمختلف مستوياته كأفق متاح للغالبية الساحقة من بناتنا وأبنائنا..

كل هذا صحيح وضروري وردع كل انحراف أو فساد بقوة القانون والدولة مسألة فوق النقاش والخلاف، ولكن لا ينبغي أن نذهب في محاربتنا لكل خرق للقانون إلى ما يشبه تجريم النجاح وإلى بناء جدران من الارتياب والريبة حوله..
لا ينبغي أن يكون المرء على اطلاع واسع بتاريخ الأمم والشعوب ليدرك أن المجتمعات التي وفرت أكبر فرص النجاح بمختلف أصنافه (من المدرسي إلى العلمي إلى المهني إلى الفني إلي الرياضي إلى المالي..) هي المجتمعات التي تمكنت من الرقي ومن توفير المحيط العيشي الملائم لجل مواطنيها..

لو عدنا إلى وضعية الحال لا يكمن الحلّ في مزيد اخضاع المؤسسة الاقتصادية إلى ضرائب اضافية كما قد يفكر في ذلك البعض، بل ستجد الدولة التونسية نفسها مضطرة - لو أرادت فعلا تجنب كارثة اجتماعية كبرى - أن تدعم القطاع الخاص بجل مؤسساته كما تفعل اليوم كل دول العالم التي تريد مقاومة آثار هذه الجائحة. ولكن ما قد يحدث الفارق هو قدرتنا على خلق مزيد من فرص النجاح ومن إتاحة الفرصة لطاقات ضخمة عند شبابنا لتعميم النجاح ولخلق الثروة في المناطق والفئات التي لم تنل حظها منها بعد.

يكفي أن نأخذ مثالا على ذلك وننطلق من القطاع المنكوب تماما اليوم وهو قطاع السياحة. فلمً لا تستغل وزارة الاشراف ومهنيو السياحة والمؤرخون وعلماء الآثار والبيئة والتهيئة العمرانية لنجعل من كل مراحل تاريخ بلادنا، بما في ذلك مرحلة ما قبل التاريخ، ومن كل خصوصيات جهاتنا منتوجات سياحية جديدة تنضاف إلى السياحة الشاطئية والصحراوية والصحية وسياحة المؤتمرات وغيرها.. مسالك وقرى سياحية تاريخية تروي ملاحم وعادات وفنون الطبخ واللباس للبربر، سكان البلاد الأصليين، وللقرطاجنيين والرومان والفتوحات الاسلامية والدولة الفاطمية والحفصية والعصر العثماني فالاستعمار الفرنسي إلى بناء الدولة الوطنية فثورة الحرية والكرامة.. وأن نحدث المتاحف والقرى والمنشورات الخاصة بكل

هذه الأبعاد، أي أن نجعل من تونس كلها منطقة سياحية كبرى تمتد من الشمال الى الجنوب ومن المناطق الساحلية الى كل المناطق الداخلية وأن تنفق الدولة على هذا الجهد الوطني الضخم مليارات الدنانير من استثمارات وقروض وهبات وأن تعد المسالك السياحية والمتاحف المخصوصة وأن تدعم كل الباعثين في هذه المناطق على امتداد خمس أو عشر سنوات، فمن يأتي الى سبيطلة مثلا يرى آثارها الرومانية واستعادة غزوة العبادلة السبعة ضدّ القائد البيزنطي جرجير يجب أن يجد المطاعم من الفاخر منها الى المطاعم المختصة في تراث المنطقة والنزل الرائقة والمحيط الجميل، وهذا يحتاج الى دعم عمومي وإلى تصور عام للمنتوج السياحي بعد عقد أو عقدين من الزمن. فكما ساهمت الدولة في صناعة السياحة الشاطئية منذ ستينات القرن الماضي، ستساهم اليوم وغدا في صناعة السياحة الثقافية والتاريخية والبيئية على امتداد كامل مناطق الجمهورية وبالاعتماد على المواهب والخبرات الموجودة فيها مع تشبيك عميق مع كامل المنظومة السياحية الموجودة اليوم من نزل ومطاعم ووكالات أسفار ومتاحف وصناعات تقليدية..

فالمطلوب اليوم هو إنقاذ كل ما يمكن إنقاذه من قطاع السياحة لأننا سنبني جزءا من غدنا به ثم خلق الفرص الجديدة والتحول المطلوب من سياحة شاطئية بالأساس الى فكرة جديدة قوامها أن كل قرية وبلدة ومنطقة في تونس يمكن أن تتحول الى منطقة سياحية ذات خصوصية وأن تكون سياحتها مربحة وأن يتحقق فيها النجاح بكل معانيه.
ان سياحة كهذه ستسهم في الرفع من مستوى البحث العلمي التاريخي والاركيولوجي والبيئي في بلادنا وستجعلنا نرتفع في مستوى سلم القيم، وما هو صالح للسياحة صالح أيضا للفلاحة ولكل الصناعات المعملية وللخدمات وللطاقات البديلة والمتجددة.
شيء فقط من الابتكار ومن المراهنة على النجاح والتألق والابتعاد عن الطهورية الزائفة التي ترى في النجاح المالي والاجتماعي منبع الشرور والآثام.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115