على هامش استعداد الحكومة للإعلان عن برنامج للانقاذ الاقتصادي والإجتماعي: في التلازم بين المحافظة على مواطن الشغل وديمومة المؤسسات

تشتغل حكومة الياس الفخفاخ منذ أسابيع على برنامج يهدف لانقاذ اقتصادي واجتماعي على امتداد كامل هذه السنة للتخفيف،

ما أمكن، من الموجات الارتدادية لأزمة الكورونا وما سيصاحبها حتما من انكماش اقتصادي حاد.

ويمكن أن نستبق منذ الآن الجدل الكبير الذي سيحصل حول أولويات الانقاذ: فهل ينبغي أن ندعم المواطنين من أجراء وحرفيين وعملة عرضيين وعاطلين عن العمل.. أم ينبغي أن ندعم المؤسسات الاقتصادية؟ وهل نشترط على المؤسسات الاقتصادية حينما تلجأ إلى الدعم العمومي أن تلتزم بالمحافظة على كل مواطن الشغل فيها أم لا؟
بعبارات أخرى لو اضطرت الحكومة للتحكيم بين الاجتماعي والاقتصادي - وهي ستضطر إليه حتما - فما هي أنجع السبل لا فقط للانقاذ اليوم بل ولاعادة البناء غدا.

نحن هنا أمام أسئلة نظرية والقول بأنه لا فصل بين الاقتصادي والاجتماعي ليس دوما صحيحا إذ كم من مؤسسة اقتصادية لجأت الى تسريح جزء من عمالها وهي رابحة حتى تتحسن مردوديتها فقط لا غير.
إن أسوأ خدمة نقدمها للبلاد في هذا الظرف الصعب للغاية هي التمترس الايديولوجي أو المصالحي المحض أو ألا تراعي السياسات العمومية العاجل والآجل في نفس الوقت الإجراءات والقرارات.

ولعله من المفيد هنا ألا ننظر إلى الأزمة القادمة فقط من زاوية الفاعلين الاقتصاديين المباشرين ( صاحب العمل والأجراء أساسا) بل إلى المحيط العام للمؤسسة وجملة المتداخلين مباشرة أو بصفة غير مباشرة في سيرورة نشاطها من شركاء ومزودين وحرفاء وأيضا تأثير نشاط المؤسسة وكل العاملين فيها على محيطهم الجغرافي والبشري.
كل هذا لنقول بأن الانقاذ سيكون عملية معقدة وهو لا يهدف فقط إلى إنقاذ أكبر عدد ممكن من مواطن الشغل أو من المؤسسات فقط بل إلى إنقاذ أهم حلقات منظومة الشغل المعقدة) من مزود المواد الأولية والبنك الى تاجر الحي أو العملة العرضيين الذين يسدون خدمات لعمال مؤسسة اقتصادية ما) والأساسي أن الأموال التي ستنفق في سبيل الانقاذ ينبغي أن تهيء بدورها للمرحلة الثانية وهي التنشيط الفعلي للاقتصاد.

أي أن المثالي اليوم لا يكمن في تقديم الإعانات - الضرورية ولاشك - للعائلات المعوزة ومحدودة الدخل بل كيف نجعل من هذه الاعانات اليوم عنصرا أوليا لاخراج أكبر عدد ممكن من هذه العائلات من الفقر والخصاصة وادراج ما يمكن ادراجه في دورة اقتصادية إدماجية وتصاعدية في نفس الوقت. تماما كما نسعى اليوم الى ادماج هذه الفئات في ما يمكن أن نسميه بهوامش المنظومة البنكية والمالية بهذه الحسابات الافتراضية التي ستوضع فيها الاعانات الموجهة لهم، فالعمل على التضامن الاجتماعي دون أفق النجاعة الاقتصادية لا معنى له على المديين المتوسط والبعيد والأساسي لدولة تحترم مواطنيها لا يكمن فقط في تقديم المساعدات للفقراء بل في اخراجهم من دائرة الفقر أساسا.

ولعله حان الوقت كذلك لإعادة التفكير في كل آليات تدخل الدولة بما في ذلك المنظومة الجبائية الحالية التي تفرز بطبيعتها وبارتفاع ضرائبها وبتعقد العلاقة بينها وبين سائر المواطنين الى تدعيم غير مباشر لاقتصاد مواز يتفاقم من يوم إلى آخر... وهنا لا نتحدث عن التهريب بل على كل الأنشطة الاقتصادية والتي تغيب عن أنظار المنظومة الجبائية بما في ذلك بعض أنشطة الدولة ذاتها.

أن تُخّضًع بعض الأنشطة في قطاعات مخصوصة كالمحروقات والبنوك والنشاطات المالية والمساحات الكبرى إلى ضرائب مرتفعة نسبيا - وهذا هو وضعها بصفة عامة اليوم - فهذا معقول بل وينبغي أن يشمل أيضا كل القطاعات الريعية ذات المداخيل المضمونة والقيمة المضافة الضعيفة، وفي المقابل لا بدّ من استغلال هذه الأزمة للحدّ من القيود الجبائية على كامل النسيج الاقتصادي وحث كل الناشطين في القطاع الموازي من غير المنخرطين في أنشطة محظورة بأن يلتحقوا بالقطاع المنظم وقد تبسطت اجراءاته وانخفضت جبايته.

ولكن الإصلاح الاقتصادي الأكبر المطروح اليوم هو في ايجاد المزيد من التشبيك بين مختلف منظومات الانتاج والخدمات في البلاد وفق رؤية استراتيجية وطنية. ويمكن أن نعطي مثالا على ذلك بتكثيف المسارات السياحية ذات الصبغة الثقافية الأركيولوجية والحرفية والبيئية الفلاحية والدعم المكثف للباعثين في كل هذه المجالات حتى يصبح لنا فعلا منتوج سياحي جديد يجلب صنفا جديدا من السياح على امتداد كامل مواسم السنة دون أن يعني ذلك بالطبع التخلي على السياحة الشاطئية بل بالعكس تماما اذ ينبغي تشبيكها هي الأخرى مع هذه المنتوجات الجديدة التي تستحق جهدا كبيرا لسنوات عديدة.

في المحصلة لا نريد في الأسابيع القادمة لبلادنا صراعا عقيما بين معسكري «الدور الاجتماعي للدولة» و«كل شيء للمؤسسة» بل تفكيرا جماعيا لابتكار أنماط جديدة من التشبيك الاقتصادي والاجتماعي في انتظار إصلاح الاصلاحات وكبريات المعارك التي لم نخضها بعد: اصلاح المنظومة التربوية والتكوينية والتي دونها لا أمل لنا في الارتقاء في سلم القيم

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115