لا مثيل لها منذ آخر أهم أزمة عصفت به سنة 2008 وقد قدر صندوق النقد الدولي هذا الانكماش بأكثر من 6 ٪ من الناتج المحلي الاجتماعي العالمي فبعد أن كانت التقديرات سنة 2020 تتوقع نموا عالميا ايجابيا بـ 3،3 ٪ أصبحنا نتحدث عن نمو سالب بـ 3 ٪.
وستعيش تونس نفس الانكماش اذ توقعت ميزانية 2020 تحقيق نسبة نمو ايجابية بـ 2،7 ٪ ولكن تقديرات صندوق النقد الدولي تتحدث عن نمو سلبي بـ 4،3٪ أي أن هنالك تراجعا بسبع نقاط كاملة مقارنة بتوقعاتنا الأولية.
ونضيف إلى هذا بأن توقعات صندوق النقد - وهي التوقعات الأكثر جدية عالميا - قد تأسست على فرضية الخروج التدريجي من الأزمة خلال السداسي الثاني لهذه السنة، وهو أمر لم يتأكد بعد أي أن التراجع النهائي عالميا وتونسيا قد يكون أرفع من هذه النسب.
ولكن هذه الأرقام المجرّدة تخفي واقعا اقتصاديا واجتماعيا وبشريا أعقد لأن أزمة كهذه، وأيا كانت الجهود المبذولة من قبل السلط العمومية ومن الفاعلين الاقتصاديين، قد تكون بمثابة التسونامي الذي قد يأتي على مؤسسات بالمئات وربما بالآلاف وعلى ما يتبع ذلك من مواطن شغل ومن امكانيات استثمار ويضاف إليه كل النسيج الاقتصادي والمهني المرتبط بصفة غير مباشرة من الخيرات والطاقة الشرائية التي توفرها كل مؤسسة اقتصادية على حدة.
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
لنصارح أنفسنا من البداية: لا تستطيع السلط العمومية لا في بلادنا ولا في جلّ دول العالم (باستثناء الدول الثرية جدا والمحدود جدا عدد سكانها كذلك) أن تحافظ على هذا الكم الهائل من المؤسسات والمهن المهددة الآن وغدا بارتدادات التسونامي الوبائي، وكل ما يمكنها فعله هو أن تحدّ ما أمكن لها ذلك من الآثار الدائمة للأزمة وأن تتهيأ وتستبق وترافق الاستفاقة التدريجية للآلة الانتاجية التونسية.
الشعار الجميل الذي أطلقه رئيس الحكومة الياس الفخفاخ منذ إعلان التدابير والإجراءات الأولى للحجر الصحي أي المحافظة على صحة الأفراد وعلى المؤسسات الاقتصادية وعلى مواطن الشغل هو شعار مستحيل التحقيق لأن الموجة التي سنصطدم بها في الأسابيع والأشهر القادمة لا قبل لنا بها.
الحفاظ على موطن شغل واحد لا يعني فقط أجرته لشهرين أو ثلاثة ولكن يعني بالأساس وبالاضافة إلى ذلك امكانية مواصلة المؤسسة الاقتصادية التي تشغله لحياتها حتى لو فقدت جزءا هاما من حرفائها، ولهذا تراها تحتاج، نظريا لأضعاف أضعاف أجرة عامل فيها لكي تكون قادرة على الاحتفاظ به، ونحن هنا نتحدث عن ديون المؤسسة وقروضها ومختلف التزاماتها البنكية والتجارية والتي لو لم تف بها سوف تجد نفسها مقبلة على الافلاس الوشيك.
لنأخذ مثالا واحدا على ذلك: القطاع السياحي بما يوفره من يد عاملة مباشرة (القطاع الفندقي يوفر حوالي مائة ألف موطن شغل مباشر) وكل مواطن الشغل غير المباشرة والتي تقدر في تونس بحوالي ثلاثمائة ألف.. وزير السياحة ذاته يتحدث عن موسم انتهى والأمر كذلك وفق كل المؤشرات.
ولكن نحن نعلم جيدا أن قطاعات أساسية مرتبطة كثيرا أو قليلا بالسياحة كالصناعات الغذائية والفلاحة والصيد البحري والبناء والأثاث وكل ما تستهلكه السياحة بمختلف خدماتها، ونضيف الى ذلك المؤسسات العمومية التي تشتغل مع هذه المؤسسات لتوفير خدمات الماء والتطهير والانارة والتدفئة والمؤسسات المالية من بنوك وإيجار وتأمين، والتي ستتأثر حتما كليا أو جزئيا بانحسار النشاط السياحي وهذا دون الحديث عن كل المهن والحرف المرتبطة بالصناعات التقليدية والتي يمثل قطاع السياحة بالنسبة لها حريفا هاما وتضاف الى ذلك كل المهن والخدمات التجارية وغيرها والتي ستفقد حزءا، في بعض المناطق هام جدا، من حرفائها...
لو أردنا أن نحافظ علىكل هذا النسيج على امتداد سنة 2020 لتوجب على الدولة توفير ما لا يقل عن ثلاثة مليار دينار، أي أكثر من المبلغ الذي رصدته للمقاومة العامة لجائحة الكورونا ولآثارها الاقتصادية والاجتماعية.
ولو عممنا ما قلناه في قطاع السياحة على كل القطاعات التي ستتضرر كثيرا أو قليلا من هذه الأزمة لوجدنا أنفسنا أمام تحديات ضخمة لا قبل لأية حكومة على مجابهتها دون القبول بالتضحية بالعديد من المؤسسات وما يتبعها من مواطن شغل مباشرة وغير مباشرة.
فالأخطر في الأزمة القادمة أمام السلط العمومية والبلاد قاطبة هو التداخل الطبيعي والضروري بين كل قطاعات ومستويات آلتنا الانتاجية وأن الانقاذ لا يمكنه أن يتجه فقط الى ما بدا لنا أنه مشكل بل الى محيطه العام اقتصاديا واجتماعيا وبشريا، ثم التحكيم الصعب للغاية بين ما يجب انقاذه الآن لأنه أساسي وجوهري في كل عملية بناء قادمة وما سنضطر للتضحية به لأنه ببساطة لا يملك مقومات الحياة قبل ومع وبعد الكورونا.
صحيح أن هذه الأزمة قد تفتح أمامنا بعض الأفق للاصلاح وبعض الفرص للتصدير ولكن قبل ذلك لابد أن نستعد لهذا التسونامي القادم وأن نسعى لادارة الأزمات الناجمة عنه بأخف الأضرار.