حول «الإسلام التونسي» (الحلقة الأخيرة) IV- مقاربات في الإسلام اليومي

كيف يعيش التونسي تدينه اليوم فرديا وجماعيا؟ وماهو المخيال الجمعي الذي يعطي لهذا الكم الهائل من المعتقدات والتقاليد والقيم والفولكلور تناسقه العام؟

لا ندعي مطلقا فيما سيلي الاجابة عن هذين السؤالين الأساسيين لتحديد ما يمكن أن نسميه بالتدين اليومي (la religiosité au quotidien) لأننا أمام مجال خبري (بل مجالات خبرية) متنوع (ة) ومعقد (ة) إلى الأقصى، ورغم بداية تكون مكتبة عملية وبحثية حول هذا التدين اليومي في تونس إلا أن هذا المجال مازال يستحق إلى مزيد البحث والتمحيص.

في هذه الحلقة الأخيرة سوف نكتفي ببعض الاشارات والمقاربات العامة.

• كيف يُعرف التونسي نفسه؟ وماهي الهوية الغالبة على ذهنه بصفة تلقائية؟

أجرت مؤسسة «سيغما» استطلاعا ضخما لآراء وتوجهات التونسيين في أكتوبر 2017 في 366 صفحة حول السوسيولوجيا الانتخابية وقد ضمت العينة 5407 مستجوبا، وهي عينة ضخمة نسبيا في عمليات سبر الآراء، وطرحت السؤال التالي على المستجوبين: كيف تعرف نفسك بداية؟ هل أنت تونسي. مسلم، عربي، افريقي، من جهة ما من البلاد أو شيء آخر؟ وكانت النتيجة التالية: 46 ٪ يعرفون أنفسهم بأنهم مسلمين بداية و 41 ٪ يقدمون البعد الوطني (تونسيون) في تعريفهم بأنفسهم بينما يختار 13 ٪ تعريفات أخرى..

وقبل ذلك بسنتين، في ديسمبر 2015، وفي تحقيق آخر لـ«سيغما» شمل هذه المرة خمسة دول (تونس والجزائر والمغرب وليبيا ومصر) جاءت الهوية الوطنية في الصدارة بالنسبة للتونسيين بـ 53 ٪ مقابل 38 ٪ للهوية الدينية فيما كانت الهوية الدينية هي الطاغية في البلدان الأربعة الأخرى.

كيف نفسر الفارق بين الدراستين؟ اذ تبدو الهوية، للوهلة الأولى، من العناصر العميقة في الشخصية والتي لا تتغير بسرعة خلال سنتين.

في الحقيقة نحن هنا أمام الحدود العلمية (الإبستمولوجيا) لمثل هذه التحقيقات لو اكتفينا بالأرقام كما هي، لأن هوية الفرد في كل مجتمعاتنا هي هوية مركبة واجباره، عبر السؤال على تعريف وحيد فيه ولا شك اختزال خاصة إن لم يكن المستجوب يرى تناقضا بين مختلف الأبعاد المقترحة عليه إذ جلّ المستجوبين يعتبرون أنفسهم تونسيون ومسلمون وعرب وأبناء جهاتهم الأصلية وأفارقة وربما أيضا مغاربيون ومتوسطيون، ولكن عندما يجبرون على الاختيار في 2017 كما في 2015 نجد أن بعدين أساسيين هما البارزان: الوطنية (تونس) والدين (الإسلام) وقد يعود الفرق بين 2015 و2017 إلى العنصر السياسي المستبطن في السؤال فـ 2015 تأتي بعد الهزيمة المدوية لحركة النهضة بينما يأتي تحقيق أكتوبر 2017 وقد تراجع الأمل المعقود على الحزب الفائز في الانتخابات، نداء تونس وزعيمه المغفور له الباجي قائد السبسي.

لكن الذي يهمنا هنا والذي يمكن أن نعتبره خصوصية تونسية مقارنة بالغالبية الساحقة للشعوب العربية هو شبه التعادل بين البعدين الأساسيين في الهوية المصرح بها بين الوطن والدين بينما يغلب التصريح بالهوية الدينية في كل البلدان العربية التي حصلت فيها دراسات مشابهة.

ولكن هذه الدراسات لا تقول لنا ما هو (الإسلام) المصرح به وما هي نسبة التمثل الشخصي لهذا المفهوم العام؟

• ما يمكننا قوله هنا هو ملاحظتنا لحضور تصور أكثر نسقية لـ «الإسلام» في الذهنية التونسية خلال هذه العقود الثلاثة الأخيرة خاصة، أي تصور معياري يأتي من خارج الذات وتنطق به جهات (مشائخ القنوات الدينية الواقعة تحت التأثير المباشر للوهابية أو تيارات فكرية وسياسية أو «مرجعيات» محلية كإمام مسجد الحي أو غيره..) والواضح أن هذا الإسلام المعياري الجديد لا ينبع في جلّه ممّا نسميه بـ«الإسلام الزيتوني» وحتى إن نبع شكلا منه فهو يلتقي في الحقيقة مع هذا التيار العام من الإسلام الدعوي السلفي.

ولكن نخطئ لو اعتقدنا بأن هذا «الإسلام السلفي المعياري» يُتلقى كما هو من قبل التونسي وأن عمليات واستراتيجيات استبطانه هي في تماه تام مع المضمون الفكري والعقائدي لهذا الوافد المعياري.. والسبب واضح وبسيط وهو وجود طبقات سميكة وقوية، تتفاوت من شخص إلى آخر ومن وسط اجتماعي لآخر، من التدين الشعبي الموروث عن التصوف الطرقي والذي شهد بدوره نوعا من الحياة الجديدة تترجمها عودة الروح لعديد الزوايا واقبال متعاظم للشباب عليه، فالتصوف الطرقي الذي هيمن على المخيال الشعبي لعدة قرون ورغم تراجعه الحاد في النصف الثاني للقرن العشرين مازال له حضور قوي في المخيال التونسي اما كعادات وتقاليد بعينها ( الزردة والزيارة والذكر...) أو كعناصر مكونة للتدين اليومي المعيش ويظهر ذلك خاصة في الابتعاد الفطري عن الدعاة الوعيديين (من الوعيد) الذين يجعلون من الآخرة وخاصة من جهنّم وأهوالها العنصر الأساسي لتوبة «العصاة» مقابل الاقبال الطبيعي علىخطاب الرحمة والمغفرة التي تطال كل عبد مهما كانت معاصيه وهذا من البقايا الواضحة للتراث الصوفي الذي يجعل جوهر العبادة حبّ الله ورسوله وأوليائه والأمل في رحمته ومغفرته على عكس فقهاء ومشائخ السلفية الميالين للنذير وللتخويف من النار وأهوالها حتى ينضبط «العوام» إلى القواعد الصارمة للحلال والحرام.

• هذا التمثل الشخصي والعائلي والجماعي هو العمود الفقري للتدين اليومي يضاف إليه عنصر آخر جوهري وهو أن الدين جزء من الحياة وليس الحياة كلها وأن نشاطات عدة فردية وعائلية وجماعية لا يُنظر إليها مطلقا من زاوية تطابقها من عدمه مع مقولتي «الحلال والحرام» بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك إذ لا نرى في جلّ الأوساط الاجتماعية من تشدد مبالغ مع من لا يمارس الشعائر الدينية وإن كنا دوما أقل تسامح مع المفرطين مقارنة بمن لا يؤدون الصلوات مثلا.

• كيف يمكن أن نعرف التدين اليومي التونسي؟ وماهي المقولة الأكثر جامعة لكل تنوعه؟

في الحقيقة التدين التونسي اليومي أي ذلك الاستبطان الشخصي للدين وما ينجم عنه من قيم وعادات وتقاليد وممارسات ومن حرية تجاه القاعدة الدينية المعيارية كما يحددها الفقهاء.. هذا الصنف من التدين هو القاعدة في التاريخ الإسلامي منذ عهوده الأولى، إنه «المسلم العاصي» عند الفقهاء عندما يتعلق الأمر بالصغائر أو «المسلم الفاسق» عندما يتعلق الأمر بالكبائر، ونذكر جيّدا أن من بين العناصر التي أدت إلى انقسام المسلمين الأوائل فرقا وشيعا هو الموقف من مرتكب الكبرة: هل هو مؤمن كما كانت تقول المرجئة (فرقة اندثرت بعد أن انصهرت في أهل السنة لتمثل الرأي المعتدل فيها) أم كافر كما يقول الخوارج أم هو فاسق وفي منزلة بين المنزلتين كما كان يقول مؤسس الاعتزال واصل بن عطاء؟

ثم إن جلّ أبواب كتب الفقه قد وضعت لردع «المسلم العاصي» أي مرتكب الصغائر بما يفيد بأن غالبية المسلمين منذ القرن الثاني للهجرة على الأقل - وربما قبله أيضا - كانت تدخل في خانة هذا «المسلم العاصي» بل وحتى «الفاسق» إذا ما توسعنا في مفهوم «الكبيرة».

هذا التباعد ( النسبي أو الكبير) بين القاعدة المعيارية وبين السلوك اليومي هو الذي ميّز تاريخ جميع الديانات وخاصة منها التوحيدية الحريصة أكثر من غيرها على القاعدة المعيارية في العقيدة والسلوك..

ولكن هذا «التباعد» هو في نفس الوقت العمود الفقري للاسلام اليومي المعيش، فالاسلام المعياري يعيش في النصوص أساسا والاسلام المتباعد يعيش في واقع الناس وهذا ما يفسر لِمَ تعتبر كل الأصوليات الدينية أن جوهر الانحراف يكمن في المجتمع الحقيقي وأن التدين النموذجي هو تدين الأجيال الثلاثة الأولى المسماة بالسلف الصالح.

• هذا الإسلام اليومي المعيش المتباعد - كثيرا أو قليلا - مع القواعد المعيارية للفقهاء لا يجد من يدافع عنه ولا من يؤسس له، فحتى ما نسميه بالإسلام الزيتوني، أي الإسلام المؤسس الرسمي هو بدوره اسلاما معياريا ولا ينظّر للتباعد الا متى تعلق بسلوك الحكام تحت ما يعرف بقاعدة «وجوب طاعة الامام (الحاكم) برّا كان أم فاجرا.. أما المتدين «العادي» قلا مدافع عنه ولا مبرر لسلوكه ولنظرته للحياة وللدين..

ولكن يبقى لهذا «الإسلام المتباعد» ولاسلام «العصاة» الأمل في الرحمة وأن العبرة بالخواتيم لا بالبدايات وأن التباعد هو جدل الحياة الحقيقي بين ما يعتقد بأنه منشود وبين الواقع الموجود.

هذا «الاسلام المتباعد» هو إسلام جلّ التونسيين وجل العرب والمسلمين وهو وحده مصدر الاعتدال والتسامح إذ لا اعتدال ولا تسامح ولا قبول بالآخر لو نفينا المسافة (أي التباعد) بين القاعدة المعيارية وطرق تمثلها الواقعية..

لو قصدنا بـ «الإسلام التونسي» إسلام المؤسسة الزيتونية والثلاثية التي حكمتها طيلة أربعة قرون (الأشعرية والمالكية والطرقية) والطبقات الاجتماعية التي كانت تحمله، لو قصدنا بالإسلام التونسي كل هذا، فهذا عالم قد ولى وانتهى ولا نتصور أنه بامكانه العودة وإن سعى إلى ذلك فلن يكون إلا نسخة مشوهة، أما لو قصدنا بالإسلام التونسي ذلك التدين اليومي المعيش فهو متواصل ومتجدد بحكم الجدلية المستمرة للتباعد بين الموجود والمنشود أما كل أشكال الإسلام السياسي من سلفية إلي اخوانية إلى غيرها فهي كائنات أيديولوجية آفلة بطبعها كما هو حال كل الأيديولوجيات التي تأسست على نظرة معيارية وشمولية للدين..

لقد أفلت الفرق القديمة وستأفل الفرق الحديثة ويبقى المسلم المتباعد يواصل شق طريقه دون رفيق أو درب منير في الأغلب الأعم..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115