وكيف أنه عرّف نفسه كنتيجة لتوليفة ثلاثية: أشعري العقيدة ومالكي الفقه وجنيدي الطريقة.
وفي الحقيقة لقد استوجبت هذه التوليفة قرونا للتشكل النهائي بعد الفتح الإسلامي...
لقد سيطر المذهب المالكي على جلّ افريقية وكذلك منطقة المغرب العربي بصفة مبكرة تعود إلى الدولة الأغلبية (القرن التاسع ميلادي) وفقيهها الكبير الامام سحنون.
ومن المفيد هنا أن نعود إلى تأقلم العقيدة الأشعرية مع هذا المناخ الفقهي المالكي لأنه لم يكن بالمرة أمرا طبيعيا، فالعلاقة بين العقل الفقهي (المالكي هنا) والعقل الكلامي (الأشعرية في وضعية الحال) شابتها صراعات كثيرة تونسيا ومغاربيا ومشرقيا، ففقهاء أهل السنة على مختلف مذاهبهم يعتبرون أنهم الممثلون الشرعيون للتراث الإسلامي الأصيل (أهل الحديث) ولم يكونوا ينظرون بعين الرضا إلى المتكلمين، أي علماء اللاهوت الذين يهتمون بأصول الدين (أي أصول العقيدة) على عكس الفقهاء الذين ينحصر عملهم في فروع الدين وحتى علم أصول الفقه، أي علم قواعد استنباط الأحكام الفقهية، كان يعدّ، رغم وجاهته، من علوم الفروع لا من علوم الأصول، ثم لا ينبغي أن ننسى أن التيار الفكري الذي سيطر على علم الكلام منذ النصف الثاني للقرن الثاني للهجرة (القرن التاسع ميلادي) هو الاعتزال الذي تمكن من الهيمنة شبه الكلية على النخب الدينية زمن عنفوان الخلافة العباسية، وكيف أن هذا التيار كان وراء محنة أهل الحديث (أي الفقهاء) عامة وأحمد بن حنبل خاصة فيكا عرف بمحنة خلق القرآن.
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
لا شك أن أبا الحسن الأشعري (توفي نحو 935 للميلاد)، وهو تلميذ المدرسة الاعتزالية قد انشق عن آبائه الروحيين وانتصر لأهل الحديث وأسس لما سيعرف بعلم الكلام السني ولكن العديد من الفقهاء - بمن فيهم فقهاء المالكية - كانوا ينظرون باحتراز كبير لهذه «البدعة» العقلية التي تدعي التأسيس العقلي لعقيدة السلف الصالح...
لقد دخلت العقيدة الأشعرية إلى المنطقة المغاربية عبر المهدي بن تومرت الذي تتلمذ في الشرق على يد أحد أبرز علماء الكلام الأشاعرة أبو حامد الغزالي، وحتى لو لم تكن الأفكار التي دافع عنها المهدي بن تومرت من نفس الأفكار الأشعرية ولكن عندما فرضها مؤسس الدولة الموحدية (1120 - 1269) كعقيدة رسمية للدولة عبر كتاب نسب إليه «العقيدة المرشدية» وفرضه خلفه عبد المؤمن على كامل الأراضي الواقعة تحت سيطرة الموحدين أي في الأندلس فاس بالمغرب الأقصى إلى طرابلس بليبيا وهكذا جاءت العقيدة الأشعرية إلى افريقية (تونس) مع الدولة الحفصية التي كانت بدايتها امارة موحدية.
ورغم الاندثار المبكر للدولة الموحدية إلا أن فقهاء المالكية الزيتونيين بدؤوا في تملك العقيدة الأشعرية عبر شروح «المرشدية» يعود أولها، على الأرجح، إلى نهاية القرن الرابع عشر ميلادي بواسطة الفقيه المالكي الزيتوني عمر السكوني وتواصل هذا الاهتمام في القرن الخامس عشر مع امام مالكية افريقية أبو القاسم البرزلي.
وهكذا تكوّن هذا الثالوث المتنافر إلى حدّ ما في البداية بين العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف الطرقي الذي أصبح مهيمنا على الفضاء الديني الشعبي بداية ثم بدأ يتسرب إلى الأوساط الدينية الأرستقراطية كما شرحنا ذلك في الحلقة الأولى من هذه السلسلة.
يمكن أن نقول أن هذا الموروث الفكري الزيتوني ومع ما كان يمثله من انتاج النخب التقليدية هو الذي وجد نفسه مباشرة أمام صدمة الحداثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهنا وجد الإسلام الزيتوني نفسه في دوامة جديدة لا فقط بحكم الصدمة الاستعمارية وغلبة الافرنج عسكريا وثقافيا ولكن بالاضافة إلى ذلك أصبحت دعوات الاصلاح قوية من داخل المنظومة الدينية الكلاسيكية ذاتها (جمال الدين الافغاني ومحمد عبده والأفكار الجديدة للاصلاح والتي كانت تنشر في مجلة (العروة الوثقى) ولكن نلاحظ أيضا تراجعا هوييا واضحا من أهم المؤسسات الدينية العربية آنذاك: الأهر والزيتونة، عندما تكون دعوات الاصلاح أكثر راديكالية وعندما تصل إلى حدّ تهديد هيمنتها الايديولوجية.
وهذا دون أن ننسى التحدي الايديولوجي السابق بقليل عن صدمة الحداثة الذي مثلته الدعوة السلفية الوهابية والتي طالبت في بداية القرن التاسع عشر الاسلام الرسمي الموسساتي بالتخلي عن عنصرين أساسيين من ثلاثيته: الأشعرية والطرقية. هذه الدعوة التي رفضها آنذاك الإسلام الزيتوني خاصة والمغاربي عامة (أنظر كتاب حمادي الرديسي وأسماء نويرة «الردّ على الوهابية في القرن التاسع عشر - نصوص المغرب الإسلامي نموذجا).
سوف نرى أن مختلف هذه التحديات الجديدة المطروحة (بل والمفروضة) على الإسلام التونسي» وتوليفته الثلاثية سوف تفرض عليه إعادة انتاج نفسه بصفة جديدة: انفتاح جزئي حذر على بعض أفكار المدرسة الاصلاحية عندما لا يهدد ذلك هيمنتها الايديولوجية والطبقية كذلك وانغلاق حاد ضدّ كل الدعوات والأفكار الجديدة والتي ترى فيها ايذانا ببداية نهاية دورها التاريخي.
منذ صدمة الحداثة بكل أبعادها الداخلية والخارجية نلاحظ تخلصا تدريجيا من بعض مكونات التوليفة الايديولوجية الموروثة منذ العهد الحفصي.
يبدو أن العقيدة الأشعرية التي تكلست كثيرا في تونس ولم تجد من يجدد مدونتها التقليدية قد اختفت منذ البوادر الأولى لصدمة الحداثة بينما سعى علماء المؤسسة الدينية الرسمية أيضا إلى ابعاد التصوف الطرقي من الواجهة ولم يجد «الإسلام التونسي» من ملاذ له إلا المالكية باعتبارها أصله الأول ومجال تجدده أمام صدمة الحداثة..
مع بداية القرن العشرين اختفت التوليفة الثلاثية حتى لو تم تردادها في متن ابن عاشر وأصبحت المالكية هي الدلالة على نوع من العقلانية والانفتاح والاعتدال في مواجهة الهجمة السلفية الوهابية وكذلك معقل الأصالة الأساسي ضدّ من يريدون تقويض كامل البنية الايديولوجية.
فالاعتدال لم يعد في التوفيق بين العقل والنقل الأشعري بل في المصالح المرسلة والاستحسان والقياس وعلى المبادئ المالكية في علم أصول الفقه والتي تم استرادها من مجالها الفقهي المخصوص إلى معركة فكرية جديدة.
لقد مثلت أزمة الحداثة إعلان وفاة التوليفة الثلاثية التي ميزت الإسلام التونسي على امتداد أربعة قرون على الأقل، أربعة قرون لم يكن فيها من يزاحمه على الهيمنة الايديولوجية لا من داخله ولا من خارجه.
مع صدمة الحداثة أصبح لـ«الإسلام التونسي» منافسون كثر من خارج المنظومة الدينية ولكن كذلك من داخلها وانتقلنا من توليفة ثلاثية تونسية ومغاربية ومشرقية إلى حدّ ما إلى ثلاثة أقطاب تتنافس من أجل الهيمنة على المجال الديني: الإسلام المؤسساتي (الزيتونة تونسيا) والإسلام السلفي الوهابي الذي سيجد دولة تدعمه وتحميه مع تأسيس الدولة السعودية الثالثة وإسلام سياسي اخواني وكل ذلك في شبه قطيعة مع التدين المعيش لعموم التونسيين.
يتبع
• في العدد القادم:
الهزيمة الايديولوجية للاسلام التونسي