حين تتحوّل «الكورونا» إلى مرآة نرى فيها عيوبنا

ما أكثـــر المفارقات والتناقضات التي نعيشها خلال هذه الفترة الحرجة التي تمرّ بها بلادنا بل الإنسانية قاطبة! ففي الوقت الذي تضاعفت

فيه المبادرات المعبّرة عن إيمان قويّ بالقيم المثلى وفي مقدّمتها التضامن، والرحمة... وعن رغبة في تحقيق الانسجام بين مختلف الشرائح الاجتماعية، جاءت الأخبار والشهادات والخطابات التي تعرّي واقعا مختلفا وتفضح ممارسات قلّما انتبهنا لها. فهذه فئات لا تجد غضاضة في ممارسة الفرز والتمييز وتوسيع دائرة الانقسامات وإحداث الفجوات وبناء الجدران العازلة بين الناس على أساس العرق أو الطبقة أو السلامة الجسدية أو... وهي لا تتوانى عن إبراز مدى الكره الذي تكنّه للآخر فتشتم التونسيين المقيمين بالخارج الذين قرّروا العودة أو العالقين ببعض البلدان، وتلعن المطالبين بتسريع وتيرة سفرات الإجلاء. وفي السياق نفسه عثرنا على من طرد الطلبة الأجانب وحوّلهم إلى مشردّين بل اعتبرهم بلاء و«وباء أزرق»، ورأينا من استغلّ السياق ليحقّق المكاسب والغنائم وهنا يستوي «المعتمد» و«الأمني» وغيرهما من المسؤولين مع الرجل الذي أوهم الناس بعوزه فبكى بحرقة لتحقيق مأربه أو المرأة التي وقفت بوجه من أراد دفن عزيز له وهنا لا تعوزنا الأمثلة ...

لاشكّ عندنا أنّ غريزة حبّ البقاء ومشاعر القلق والخوف من المجهول، حين تستبدّ بالناس تحوّلهم إلى محترفي صناعة الأعداء بل وحوش كاسرة. فمن يُهدّد سلامتي وأمني هو الآخر الّذي يجب أن أستبعده مهما كان الثمن. ولكن غياب الحسّ المجتمعيّ، وضمور الممارسات المعبّرة عن التضامن الإنساني وغيرها من السلوكيات قد يفسّره البعض بالمنوال الاقتصادي الذي هيمن على المجتمعات المعاصرة (الرأسمالية المتوحشة، النيوليبرالية...) فحوّل الفرد إلى أداة وجرّده من إنسانيته فصار لا همّ له سوى جمع ما به يضمن حياته أو يحقّق طموحاته في مجتمع استهلاكي يغري بتكديس الأشياء.

غير أنّ استلاب الناس وذوبانهم في عالم تهيمن عليه القيم المادية، مجرّد من ضوابط ‹التحضّر› وشروطه، وتعويلهم على أنفسهم لتحقيق «الخلاص الفردي» يشي كذلك بضياع البوصلة، والضوابط والقوانين المجتمعية والمضامين التي تؤسس المجتمع وهو أيضا مخبر بسقوط المؤسسات العاضدة للمجتمعات. ولعلّ تواري مفهوم «المجتمع» وتشظيّ الحياة الاجتماعية وتدمير الأسس التي يقوم عليها المجتمع جعل الناس لا يستدعون هذا ‹البراديغم› عندما تلمّ بهم النوائب ولا يؤمنون بأنّ وجود الفرد مرتبط بوجود المجتمع، وأنّ السلامة، في زمن المخاطر والكوارث... لابدّ أن تشمل الجميع وأنّ السلوك لا بدّ أن «يتأنسن». فمن حقّ الجميع أن يستمتعوا بالحقّ الطبيعي في الحياة ...ومن حقّهم أيضا أن يموتوا بكرامة، وآية إكرام المرء دفنه.

إنّ ما نعاينه من عنف، وهدم للنماذج والمثل، وتقوقع على الذات وتعصّب وغيرها من الممارسات «البربرية» وتنكّر للقيم الإنسانية الكونية أو على حدّ عبارة آلان توران  «Alain Touraine» اندثار المجتمعات» يحفّز واضعي السياسات التعليمية والاجتماعية والإعلاميّة والثقافية وغيرها على التفكير في إعادة النظر في المضامين والتوجهات، والاستعداد للقيام بالمراجعات والتعديل في ضوء السياق الجديد. فلا يمكن بأيّ حال، أن ندّعي أنّنا قادرون على استئناف الحياة ‹الطبيعية› وكأنّ شيئا لم يحدث. فمن لم يستخلص الدروس، ومن لم يتعلّم من هذه التجربة، التي هي في ظاهرها أزمة صحية ولكنّها على مستوى أعمق من القراءة، مجموعة من الأزمات المتشابكة، لن يكون بإمكانه مواكبة التحولات العالمية التي ستشهدها الإنسانية بعد أزمة ‹الكورونا›.

من السهل أن ننتقد سلوك المتمردّين على الحظر الصحّي وأن ننعتهم بانعدام الوعي، والجهل، وأن نعتبرهم مجرمين وأعداء للوطن... من السهل أن نشتم ونلعن ولكن من الصعب أن نفكّك العوامل التي أدّت إلى ظهور هذه التركيبة من الشخصيات وأن نحلّل البنى الذهنية التي تحيط بهذا السلوك الانتحاري. ولعلّ أخطر ما في الأمر أن نخرج من الحظر فنجد الخواء والصمت. وفي ظلّ غياب الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والافتقار إلى البرامج والأفكار وغياب المعنى وظهور الصدمات قد يكون الرجوع إلى الأفضية المغلقة الحلّ الأفضل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115