الحياة زمن الكورونا 

دخلت تونس، كما كان متوقعا، إلى المستوى الثاني من انتشار فيروس الكورونا المستجد بالانتقال من العدوى العمودية،

أي كل المصابين بالمرض قادمون من الخارج، إلى العدوى الأفقية، أي بداية العدوى المحلية..
إلى حد يوم أمس مازالت الوضعية تحت السيطرة ولم يحصل في بلادنا الانفلات الذي حصل في بلدان أخرى تفوقنا بصفة جلية ولكن هذا لا يعني ذلك أن مخاطر عدوى محلية متسارعة قد تم تجنبها بالمطلق والمسألة هنا رمزية بالأساس فهل سنبقى في حدود الأفراد أم العشرات أم المئات وهل ستشهد بلادنا حالات وفايات أم لا وبأي حجم ؟
كل هذه الأسئلة، أو بالأحرى هذه السيناريوهات الممكنة على المدى القصير لابد أن توضع على طاولة تخطيط السلط المعنية أولا وكذلك أمام أنظار الرأي العام وأن يغذى كل هذا بالمعلومات الأكيدة والصحيحة التي تقدمها إما السلط الإدارية أو السلط الصحية، ونقول السلط الصحية لأن هنالك قرارات سياسية وإدارية لا يمكن ألا يشرك فيها المختصون والممثلون في بعض المسؤوليات الإدارية داخل وزارة الصحة.. أي أن مثل هذه الأزمات تستلزم حوكمة جديدة ونحن نشاهدها الآن وهي بصدد التشكل ونرجو أن يكون دوما لرأي المختصين القول الفصل وما قد يساعد على ذلك هو وجود وزير طبيب مسبوق بوزيرة طبيبة كذلك.
إذن سوف ندعى جميعا في الأيام والأسابيع القادمة إلى العيش مع وباء جديد يتمدد، إلى حد الآن، عالميا وسوف يتمدد كذلك وطنيا بدءا بالحالات المستوردة فالحالات المحلية فالوفايات.. فهذه السلسلة طبيعية مهما بذلت السلطات الأمنية والصحية والإدارية من جهد ومهما احتاط المواطنون، كل المواطنين، والمسألة الجوهرية تبقى بالأساس في تجنب الأسوإ لا في استحالة السيء.


الكورونا بصدد إحداث تغيير جوهري في حياة مئات الملايين وكذلك اقتصاديات عشرات البلدان وهي الآن تحد من ح ركة الأشخاص والبضائع وكذلك من حركة رؤوس الأموال وسينجم عنها تراجع للنمو العالمي بما يعني ذلك من تراجع للقدرة الشرائية ومن خلق الثروة والاستثمار وإهدار ملايين مواطن الشغل نتيجة لكل هذا .
وتونس بدأت تعيش منذ أيام على وقع هذه التحولات العالمية الكبرى: هلع وسط المواطنين من جراء احتمال العدوى وإلغاء لتظاهرات علمية وثقافية (كالمعرض الدولي للكتاب) ورياضية وإغلاق مبكر لكل المدارس والمعاهد والكليات ومشاكل تهم قطاعات اقتصادية مختلفة من وكلاء الأسفار إلى مصدري الفواكه البحرية مع تراجع متوقع، ولكن لا نعلم حجمه إلى حد الآن، في الحجوزات بالنسبة للنزل واستتباعات ذلك على السياحةوعلى تصديرنا الصناعي كذلك.
لقد قدّر رئيس الحكومة الياس الفخفاخ في الحوار الذي خصنا به ونشرناه يوم الأحد الفارط بأن أزمة الكورونا وتداعياتها المختلفة قد تتسبب في خسارة نصف نقطة نمو (أي حوالي 600 مليون دينار) هذا بصفة أولية في انتظار القادم وخاصة طول الفترة التي ستتمدد فيها العدوى الوبائية بفاعلية كبيرة ما دام جلّ الخبراء الدوليين يعتقدون بأن الدواء الملائم لهذا المرض لن يظهر قبل أشهر عديدة.

ولكن، كما قلنا التحولات لن تمس فقط قطاعات اقتصادية بعينها بل وكذلك محيط الحياة اليومي ما دام هذا الوباء العالمي في انتشار..
لاشك أن حالة عدم الاكتراث التي يظهرها البعض ستتراجع كثيرا عندما ينتقل عدد المصابين من الأفراد إلى العشرات ولكن المخيف هو أن نتحول من عدم الاكتراث الى الهلوسة والهلع الجماعيين وان ينتج عن ذلك هستيريا غير متحكم فيها في التعامل مع بعض المصابين خاصة عندما يكونون من جنسيات أجنبية او الخوف المفرط من كل حالة مشتبه فيها إلى الإقدام اللاعقلاني على تخزين المواد الغذائية، وربما غدا البنزين كذلك ثم الاعتقاد بان سبيل النجاة الوحيد هو الحل الفردي.
هنالك عمل توعوي كبير لابد من القيام به لمرافقة المواطنين في كيفية التصرف الصحي والاجتماعي في المرحلة الحالية وخاصة لو تطورت نحو سيناريو سيء كوصولنا إلى عشرات او مئات المرضى مع تسجيل بعض الوفايات .. لا يمكن أن نلوم الناس على الشعور بالخوف على أنفسهم وعلى أبنائهم وعائلاتهم ولكن كيف نتصرف بعقلانية وخاصة بإنسانية مع هذا الخوف، ذلك هو التحدي الاكبر لبلادنا اليوم.
سوف يتجاوز العالم بعد أسابيع او أشهر قليلة جل مخلفات فيروس الكورونا المستجد وكذا الشأن لتونس ويبقى الأساسي بعد كل شيء: كيف تصرفت المؤسسات وكيف تصرف المواطنون زمن الكورونا؟ كأناس يقظين وحذرين أم ككائنات تائهة لا تبحث إلا عن النجاة الفردية؟
ذلك هو السؤال ...

 استعارة من عنوان القصة الخالدة «الحب زمن الكوليرا» للكاتب الكولومبي الكبير قابريال قارسيا ماركيز.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115