وقد أفرز سبر الآراء هذا حقيقة أساسية: الاستثناء التونسي في كل هذه الأبعاد.
الأرقام عندما تؤخذ في سياق مطلق لا تعني عادة شيئا كثيرا ولكن عندما نقارن بينها ونراها في سياقات تاريخية واجتماعية متقاربة تأخذ الأرقام كل معانيها... وهذا ما سمح سبر الآراء بكشفه لأنه قارن بين وضع الاتجاهات الكبرى للرأي العام حول نفس القضايا الجوهرية في خمسة بلدان توحد بينها الجغرافيا والدين واللغة وأحيانا التاريخ ولكن تميّز بينها التجربة التاريخية والحديثة المخصوصة لكل شعب وكذلك ما استقر في الذاكرة الحية لكل شعب خلال هذه السنوات الأخيرة...
ما يلفت الانتباه في سبر الأراء هذا هو أن التونسي يعتبر أن هويته الوطنية هي قبل هويته الدينية بينما لا تكاد تتجاوز أولوية الهوية الوطنية الثلث في بقية البلدان المعنية بسبر الأراء هذا بل وتنزل إلى حوالي الخمس بالنسبة لليبيين واللافت أيضا أن أولوية الشعور بالانتماء العربي هي دون 8 % بالنسبة لكل الدول باستثناء المغرب والتي تصل فيها هذه النسبة إلى 12 %...
ويتضح التمايز التونسي عندما تسأل كل العينات عن التفاضل الذي تقيمه بين الهوية الوطنية والهوية الدينية فنجد تقدما كبيرا للهوية الدينية متراوحا في دول شمال افريقيا من 71 % (المغرب) إلى 85٫6 % (ليبيا) ولكنه ينزل في تونس إلى مستوى 48٫1 %...
ولكن هذا لا يعني بطبيعة الحال بأن الدين ليس هاما في حياة التونسيين فهو هام جدا بالنسبة لـ 74٫4 % من مواطنينا ولكن هذه النسبة (هام جدا) هي دون بـ 20 نقطة على الأقل في بقية دول المنطقة.
كل مجتمعات دول شمال افريقيا متدينة وتعطي أهمية كبيرة لاداء الشعائر الدينية ولكن نلاحظ هنا كذلك سلوكيات متشابهة عند الجزائريين والمغاربة والليبيين والمصريين فحوالي 80 % منهم يعلنون أنهم مواضبون على الصلاة بينما تنزل هذه النسبة الى 54٫4 % في تونس أما بالنسبة لاداء فريضة الصوم فالنسب متقاربة اذ نجد أقصاها في المغرب بـ 97٫8 % وأدناها مرة أخرى في تونس بـ91٫7 % ولكن عندما يتعلق الأمر ببعض المظاهر الخارجية للتدين يعود الاستثناء التونسي قويا للغاية.. فبالنسبة للحجاب نجد أن 60٫1 % من التونسيين قابلون به مقابل معدل يقارب 90 % عند بقية الشعوب أما النقاب فان نسبة مقبوليته لا تتجاوز 4 % في تونس بينما تتراوح هذه النسبة ما بين 28٫6 % في المغرب و44٫6 % في ليبيا.
وينبغي أن نؤكد هنا على أن أغلبية شعوب المنطقة هي مع الفصل بين الدين والسياسة مع تقدم طفيف لتونس (72٫8 %) على مصر (71٫2 %) ولكن عندما تسأل العينات على اعتبار الشريعة كمصدر وحيد للتشريع نجد رفضا قويا في تونس بنسبة 69٫5 % بينما تقبل بهذا المبدإ بقية شعوب المنطقة وهذا يتطابق في بلادنا مع رفض قوي لتدخل الائمة في الشأن العام كما أن التونسيين يرون بأن تأثير الدين على السياسة كان سلبيا في بلادهم بنسبة 57٫6 % مقابل 17٫1 % فقط يرونه ايجابيا... وحدهم الليبيون يقتربون منا في التقدير السلبي ولكن بأقل وضوح (44٫3 % سلبي و35٫3 % ايجابي).
هذا الاستثناء التونسي في البلدان العربية لشمال افريقيا يتواصل عندما يتعلق الأمر بالصورة التي يحملها الناس عن التنظيم الارهابي «داعش» فهي سلبية للغاية عندنا بنسبة 94٫7 % بينما تتراوح هذه النسبة من 89٫5 % في مصر و92٫4 % في المغرب.. وهذا قد نتفهمه لأن حوالي ثلثي التونسيين (65٫4 %) يعتبرون أن تنظيم «داعش الارهابي» يمثل خطرا كبيرا على بلادهم يلينا الليبيون بنسة 54٫9 % لكي يصل الى دون الخمس عند المغاربة (19 %) والمصريين (18٫4 %).
كل الارقام والمعطيات الواردة في سبر الأراء هذا والتي أتينا على بعضها تبرهن على ما هو مشترك ومختلف بين شعوب دول شمال افريقيا... فالاستثناء التونسي واضح في كل المجالات وبعضه عميق ضارب في الزمن وبعضه متأت من التجربة التونسية الحديثة... وهذا ما يمكن أن نسميه بالاسلام التونسي ولكن ما نلاحظه الى اليوم هو أن هذا الاسلام المعيش لا يجد عند ما يسمى بعلماء الدين من يدافع عنه ومن يضع له الأسس النظرية التي تعطيه تناسقه العام.