مفعول الكلمة مستمرا ما دام هنالك من يتلقفها ويعتقد انه يعمل بها .
خطاب قيس سعيد ،رئيس الجمهورية ورمز وحدة الدولة،الذي ألقاه على عجل في الذكرى الثالثة لاندلاع الثورة في سيدي بوزيد وحديثه عن «المؤامرات» التي تحاك في «الغرف المظلمة» ضد «الشعب» بدأ يعطي أول آثاره الارتدادية في تطاوين عندما اطرد مئات الشباب الوالي واقتحموا مركز الولاية بحجة تجسيده لهذه «المؤامرات» التي تحول دون التنمية في الجهة ولأنهم قدروا انه لا إضافة له وبالتالي لا معنى لوجوده على رأس السلطة الجهوية هناك..
وهكذا نرى كيف أن تأويل كلمات رئيس الدولة أدى إلى طرد ممثل الدولة،بل وممثل رئيس الجمهورية من تطاوين في سيرورة لا يمكن لأحد أن يؤكد أنها ستقف عند هذا الحد..
فتحت شعار «الشعب يريد وهو يعرف ماذا يريد» أُطرد والي تطاوين وقد يتبعه ولاة ومسؤولون آخرون وقد «يزحف» شباب آخرون على مواقع أخرى للدولة سواء انتمت للسلطة التنفيذية أو حتى إلى عرين السلطة التشريعية ذاتها في قصر باردو..
في الأثناء يعين رئيس مجلس نواب الشعب، راشد الغنوشي، سبعة من قيادات حزبه جلهم من النواب السابقين في ديوانه في قبة باردو بحجة «عُرْف» سلفه وان هذه التعيينات قانونية مادامت قد رصدت لها أموال في ميزانية 2020 دون أن يقرأ أي حساب لوقع هذه التعيينات الحزبية،بل الحزبوية، لا فقط على بقية أعضاء مجلس نواب الشعب بل على عموم التونسيين بما يرسخ لديهم فكرة أن السلطة كعكة يتقاسمها المنتصرون وتسند وفقها الوظائف للإتباع والمناصرين .
قبيلها بسويعات قليلة خرج علينا ،مجددا،رئيس حكومة تصريف الأعمال في بث مزدوج بين قناتين تلفزتين ليدافع عن نفسه وعن حصيلته وليندد بالمؤامرات التي استهدفته لأنه تجرأ على ما لم يتجرأ عليه غيره ويربط بسهم بين «المكائد» التي دبرت له وتلك التي تدبر او ستدبر لرئيس الجمهورية الجديد لأنه ،مثله،رجل وطني مخلص !!
وغير بعيد عن هذا وذاك يتخبط رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي بين مختلف مخططات حركة النهضة المعلنة منها والمخفية وكل في مرة اعتقد بأن الرياح أصبحت سالكة إلا وجاءته إشارات جديدة بضرورة تغيير وجهة المركب بما يقتضيه من تغيير التحالفات والشخصيات والتركيبة الوزارية قبل عرضها على نيل ثقة مجلس نواب الشعب..
لاشك أن منظومة الحكم المنتهية ولايتها قد فشلت في تحقيق أهم ما وعدت به رغم محاولاتها ولاشك أيضا أن حكم تونس بعد الثورة أصبح أمرا عسيرا للغاية بحكم تفاقم المطلبيات من جهة وتذرر السلطة من جهة أخرى لا بحكم المنظومة الدستورية الجديدة كما يعتقده البعض بل بحكم عجزنا جميعا على تأسيس جديد فعلي يبني أفقا وطنيا مشتركا.. ولقد أدى كل هذا لا إلى انتصار الخط الثوري كما يروج له بعض الدعاة اليوم بل إلى انتصار التيارات الشعبوية المتعددة والمتناحرة، وهذا مسار طبيعي وكوني في كل بلدان الانتقال الديمقراطي – وحتى أيضا في بعض الديمقراطيات العريقة – عندما يحصل إدراك عام بعجز النخب السياسية أو فسادها أو الاثنين معا..وهذا ما حصل بالضبط في تونس فأفرز المشهد السياسي العام الماثل أمامنا..
والإشكال مع بعض التيارات الشعبوية ،في تونس – كما في العالم –أنها تريد تعويض عجزها عن الفعل بلعب ورقة «الشعب» ضد «المؤسسات» و«النخب» المتهمة بكل الشرور والآثام مقابل الخير والحق والفضيلة الموجودة حصرا في «الشعب» وانه يكفي إزالة جدار النخب والمؤسسات لينال الشعب خيراته المنهوبة وينعم برغد العيش ..
ما حصل في تطاوين هو تطبيق مباشر وفوري «للشعب يريد ويعرف ماذا يريد» وذلك بقطع النظر عن النوايا الفكرية والسياسية والإيديولوجية لصاحب الشعار والتي لا نشك في صدقها وفي حسن نيتها ولكن جهنم ،كما يقول الإفرنج، مبلطة بالنوايا الحسنة ..
أخطر ما في الشعار الجميل «الشعب يريد» هو مغالطة الشعب عن حسن نية وإلغاء كل العراقيل التاريخية والثقافية والسياسية والعلمية إزاء انعتاقه وتقدمه بكلمة سحرية تلغي فعل الانسان في التاريخ ..
فالمسؤول عن فقر جزء هام من التونسيين وتهميش جزء آخر منهم لا يوجد في هذه «الغرف المظلمة المغلقة» التي تتآمر عليه صباحا مساء ويوم الأحد بل في تراكمات تاريخية لم تبدأ اليوم او مع دولة الاستقلال أو حتى الاستعمار ،بل بدأت منذ أربعة أو خمسة قرون على الأقل عندما أضاع فضاؤنا الثقافي زمام المبادرة الحضارية ففاتتنا ثورة الطباعة والثورة الصناعية الأولى مع الآلة البخارية والثورة الصناعية الثانية فالثالثة والآن الرابعة مع الذكاء الاصطناعي كل ما سبق ذلك ورافقه وعمّقه من ثورة في الفكر والعلم والقيم والسياسة والاقتصاد وتنظيم المجتمع ثم تفاقم كل ذلك مع الاستبداد والاستعمار والسياسات الخاطئة أو المنقوصة مع دولة الاستقلال..
لا نهوض لشعبنا دون الوعي بكل العناصر المتداخلة والمترابطة والمتراكبة لتخلفنا العلمي والتقني والاقتصادي خاصة وإننا لا نملك ثروات باطنية بالدرجة الكافية كما هو حال بعض البلاد العربية لنعوض بها، في مستوى المعيشة فقط، عن كل هذه المواعيد التي أخلفناها مع التاريخ.
«الشعب يريد» يصبح شعارا عظيما عندما يتوجه الى إرادة الحياة الكامنة في كل أمة لرفع كل هذه التحديات كما فعلت أمم قبلنا أخلفت هي بدورها في وقت سابق كل هذه القطارات ..
فبالإرادة والعمل والتخطيط يمكن ان نسابق عجلة الزمن وأن نستفيد من تجارب كل الشعوب والأمم لنخلق تدريجيا شروط التفوق والتقدم والازدهار..
يوجد فرق جوهري بين الإرادة الصلبة الواعية المصممة المغيرة لمعطيات الواقع والتاريخ وبين بيع الأوهام بشعارات جوفاء تشحن العاطفة ولا تحول الإرادة إلى فعل في التاريخ ..
الشعوبية عندنا –وعند كل شعوب الدنيا - لا جواب لها عن الأسئلة الحقيقية ولا تحل المشاكل الواقعية بل تفاقمها لأنها تؤخر بل وتلغي شروط الوعي بها وتحل الاحتراب الأهلي مقابل الإرادة الموحّدة للجهود الوطنية.
سيادة رئيس الجمهورية والسيدات والسادة نواب الشعب مازلنا لم نفقد الأمل في عودة الوعي إلى الجميع والى كل بنات وأبناء هذا الشعب وان تحل العقلانية بيننا وان نتداول بعمق حول أزماتنا والاخلالات الهيكلية لكل منظوماتنا من اجل التشمير على ذراع الجد..
ولكن في البداية لابد من التوضيح وقول الحقيقة لجموع المواطنين وتصحيح المسار وتجنب الافتتان الشعبوي والأوهام العقائدية وان نؤسس جميعا على هذه الثقة العالية التي دفعت بجامعي نظيف اليد إلى سدة الحكم..
الإصلاح مازال ممكنا أمّا الإصرار على الخطإ فمدمر للجميع .