النار في جسده النحيف.. لحظة مطلقة صامتة نطق بها الأهالي دقائق بعدها وجعلوا منها مروية كاملة متكاملة للحظة تأسيس ما، ثم تلقفها كل التونسيين وسارت المروية في الجسد الوطني كما تسير النار في الهشيم: شاب خريج التعليم العالي عاطل عن العمل يعول عائلته كبائع متجول فصفعته موظفة التراتيب البلدية وافتكت منه خضره فذهب يحتج للسلط الجهوية فأوصدت أمامه أبواب الإدارة فأضرم النار في جسده كاحتجاج مطلق على أهانته وكانتقام أبدي لكرامته..
لا يهم في هذه المرويات المؤسسة الصحّة الحدثية الصرفة بكل جزئياتها،بل وقد تكون جلّ جزئياتها خاطئة أو غير دقيقة أو تحتمل لقراءة أخرى ..المهم في اللحظات المؤسسة هو جملة التمثلات التي صاحبتها وشكلتها ثم نطقت بها وما يصح عن اللحظة المؤسسة للثورة التونسية يصحّ عن كل اللحظات المؤسسة في تاريخ البشرية، ولذلك عانقت هذه اللحظة الموغلة في خصوصيتها الكوني والإنساني وفتحت بذلك مجالا جديدا لا في تونس فقط ولا كذلك ما سمي بالربيع العربي بموجته الأولى والثانية ،ولكن كذلك لحظة إنسانية جديدة تعيد وضع الكرامة في مركز العلاقات البشرية داخل كل الشعوب والثقافات والحضارات .
قلنا بأن الدقة الحدثية ليست هامة في اللحظة البوعزيزية، فالهام والأساسي هو تمثلها والمروية التي نسجت حولها وحولتها إلى ثورة هادرة أطاحت بنظام ،أو برأس نظام ، تسلطي خلال أربعة أسابيع فقط..
ماذا تقول لنا هذه المروية ؟
-شاب أتم دراسته الجامعية ولم يجد العمل اللائق والمناسب ليقتات منه
-سلطة تهين وتصفع ثم لا تنصت
-جهة مهمشة
-نمو غير متكافئ بين مختلف مناطق البلاد
-سلطة استبدادية مافيوزية عاجزة على الإدماج
-الكرامة أولا وأخيرا والكرامة قبل الخبز بل وقبل الحياة ..
هذه المروية التي انبثقت منه الدقائق الأولى التي تلت هذا الحدث المؤسس هي التي أعطت الشعارات المركزية للثورة التونسية :الشغل والحرية والكرامة .وإن كان الشباب يردد في كل جهات البلاد «شغل حرية كرامة وطنية» الكرامة اهم واعمق واشمل من الكرامة الوطنية لأنه لا كرامة لوطن لا يجد فيه الفرد كرامته
ما معنى الكرامة، هذه التي قامت الثورة من أجلها ؟
إنها ببساطة – وبعظمة في آن واحد – جوهر الفكر الحديث المؤسس على فلسفة حقوق الإنسان والنظام الديمقراطي ..الكرامة هي صرخة تدعو إلى العودة إلى أس الأسس : المساواة ..المساواة بين الأفراد مهما كان جنسهم ولونهم ودينهم ولغتهم ونضيف إلى ذلك فئتهم العمرية والاجتماعية وانتماءهم الجهوي..الكرامة هي صرخة المساواة أمام نظام الامتيازات و«الأكتاف» واللوبيات والشبكات الزبونية والسياسات التمييزية وفرص التألق والازدهار والنمو غير المتكافئة.. الكرامة هي صرخة المساواة في الفرص والعدل في التوزيع وانسيابية السلم الاجتماعي وألا تتحول الفوارق الطبيعية بين الأفراد إلى علاقات ظالمة مؤبدة بين الفئات والجهات..
الكرامة هي صرخة الفرد المكبل بالأغلال وصرخة لتحطيم كل المنظمات الفاسدة الظالمة..
قد يظن بعضنا أننا أمام طوبا لا تصمد أمام الواقع المعاصر المعقد لا وطنيا ولا دوليا ولكن هذه الطوبا هي التي أسست الحداثة الفكرية والسياسية والاقتصادية، والانزياح عن هذا المبدإ الأصلي هو الذي يفسر اليوم الجزء الأكبر من الاحتجاجات وانسداد الأفق في جل بلدان العالم اليوم..
الكرامة لا تعني المساواة الميكانيكية بين الأفراد في أجورهم ووضعياتهم الاجتماعية ولا أن يتساوى المجتهد والمبدع والمجدد مع غيره بل تعني التساوي في الفرص بداية والعدالة بين الأفراد ثانيا وألا تتحول الفوارق الطبيعية بينهم إلى امتيازات متوارثة تعطل المصعد الاجتماعي وتحول التفاوت المقبول إلى ظلم في التكوين والتشغيل..
هذه هي الرسالة الأساسية لـ17 ديسمبر وشعارها المركزي : الكرامة.. شعار تلقفته تونس بجل فئاتها وجهاتها وجعلت البلاد تنتفض وتثور أمام نظام لم يتمكن من العدل بين الجهات والأفراد وأضاف إليه تكميم الأفواه..
لحظة 17 ديسمبر وما ترمز إليه من حيف جهوي واجتماعي تلقفتها لحظة 14 جانفي وما ترمز إليه من قرف شباب المدن الساحلية والطبقات الوسطى والنخب من تسلط وفساد نظام بن علي..
ولكن أزمة تونس الهيكلية أن هذه الكتلة التاريخية حسب تعريف قرامشي لم تستقر وانخرم بسرعة التحالف بينها فنسي جماعة 14 جانفي صرخة وثورة 17 ديسمبر فغلب مطلب الديمقراطية في أشكالها الخارجية (حرية تعبير وتنظم وانتخابات ومؤسسات منتخبة) على مطلب المساواة أي التقاسم المادي والمعنوي فكادت تفقد ديمقراطية الانتخابات والإعلام الأصل والمنبع وهو إلغاء كل منظومات الامتيازات وإعادة تأسيس العقد الاجتماعي على الكرامة أي تساوي الفرص ومكافأة التألق والتفوق والعدالة في التوزيع ومقاومة فساد منظومات التمييز والامتيازات ..
تلك هي لحظة الثورة المؤسسة التي انطلقت ذات يوم منذ 9 سنين ولكنها لم تتحول بعد إلى تأسيس جذري جديد يقوم على قيم المساواة والعمل والعدل وتوفير شروط الامتياز والتفوق لكل بنات وأبناء تونس وما زاد الطين بلة انغماس أجزاء هامة من النخب السياسية والجمعياتية والفكرية والنقابية في صراعات صغيرة اعتقادا منها أن الديمقراطية هي اقتسام كعكة رثة بدلا من خلق شروط الازدهار الفعلي للجميع ..