الطبقة السياسية ووجّه رسالة تحذير شديدة اللهجة إلى كافة الأحزاب السياسية. فبعد أن كان العزوف عن المشاركة السياسية ترشّحا وانتخابا، الطريقة المثلى للردّ على النظام التسلّطي صارت مقاطعة أغلب الشبّان والشابّات للانتخابات الوسيلة الأمثل للردّ على التهميش والإقصاء، وعلى رفض سياسات الدولة التي لم تكترث بتمثيلية الشباب ولا بمطالبهم. وها نحن ننتقل إلى أشكال أخرى من التعبير عن الغضب والاستياء لعلّ أبرزها اختيار فئات من الناخبين من هو أقلّ خبرة ومعرفة ، ومن كان غير ملتزم البتة بالحضور في مجلس الشعب، أو من تحوم حول شبهة فساد أو من كان موّرطا في التهريب...
ويذهب أغلب المحلّلين إلى أنّ اختيار «الشعب» عددا من الأشخاص ممن لا تتوفّر فيهم الكفاءة أو النزاهة ليكونوا نوّاب الشعب الجدد لا تفسير له سوى الرغبة في التشفّي والاستمتاع بالفرجة التي اختار عناصرها. فليتحمّل إذن النوّاب الّذين أصرّوا على الاستمرار في العمل وتحمّل المسؤولية تبعات هذا «الاختيار التأديبي».
لنفترض جدلا أنّ السمة الرئيسية لانتخابات سنة 2019 هي «التأديب والعقاب» في انتظار أن يفهم الفاعلون الرسالة وتراجع الأحزاب توجهاتها، ويعيد السياسيون النظر في خطاباتهم وطريقة تدبيرهم للبلاد ويحسّن النوّاب أداءهم في المجلس. ولكن كيف سيكون بإمكان «الأخوة الأعداء» العمل في مناخ بات فيه العنف سيّد الميدان، وتصفية حسابات الماضي هدفا رئيسا؟ ومن سيكون مسؤولا على تعثّر سير أعمال المجلس، وتعطيل البتّ في القوانين؟ ومن سيتحمّل نتائج هذه التركيبة الهجينة؟
تشير الهجنة /الهجانة إلى مجموعة من النواقص: فالهجنة العيب والقبح، وهجن الكلام كان معيبا، وهجّن النتاج : زاوج بين سلالتين أو صنفين مختلفين لا يلتقيان، وهجَّن النظام الاقتصاديّ : مزج بين النظام الاشتراكيّ والرأسماليّ ... إنّها طريقة في الجمع بين المتناقضات والتوليف بين عناصر يعسر في العادة أن تتفق، وهو ما بدأنا في معاينته : فمنذ انطلاق أعمال مجلس الشعب لاحت بوادر التأزّم ،وصارت متابعة المشهد مثيرة للاستغراب : تراشق بالتهم وعبارات من قبيل «كلوشارات» و«بانديا»، وسدّ لمنافذ الدخول إلى المكاتب ، وهرج ومرج وعرض للقدرات، وحركة على الركح: ذهابا ومجيئا، خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء، ومسرحة للعمل وميل نحو «العجيب والغريب».
نعم يستنكر التونسيون ما يحدث، وينتقدون ويستهجنون... ولكن من أوصل هذه العناصر الهجينة إلى مواقع صنع القرار؟ من عمل على المزاوجة بين منظومات ليبرالية التوجه ومنظومة شديدة المحافظة تنتمي إلى أفق ماضويّ؟ وهل يتوقّع من هذه العناصر الهجينة أن تبتكر طريقة في التسيير الديمقراطي بإمكانها أن تحقّق النجاعة المطلوبة؟ وهل بإمكان هؤلاء أن يبرزوا لنا الصور الإيجابية للهجانة ؟ وهل عاقب الشعب النخب السياسية وحاول ردعها باختيار الهجانة طريقة في التأديب أم أنّه عاقب نفسه ولسان حاله : «بيدي لا بيد عمرو».
إنّ الهجانة السياسية l’hybridité politique ليست إلاّ بعدا من أبعاد الهجانة في بلادنا والتي تتجلّى من خلال مناويلنا الاقتصادية والتنموية ، ومناهجنا التعليمية وسياساتنا الثقافية والإعلامية وغيرها. فمنذ نشأة الدولة والسياسات تتأرجح وتنوس بين الرغبة في التحديث والتعصير وبين الوفاء للتراث والمحافظة على الأعراف والتقاليد ...وها نحن نتبيّن آثار هذه الهجانة في الفجوة بين النصّ القانوني والواقع ، التشريعات والتطبيق، الخطابات والوعي، وغيرها.
ونتوقّع أن تؤدي الهجانة السياسية التي فرضت من القاعدة /تحت/ الشعب ،إلى نتائج وخيمة تتجاوز الإشكاليات المنبثقة عن فهم محدود لطبيعة الديمقراطية، والمشاركة السياسية، ومسار الانتقال الديمقراطي إلى تعطيل مصالح الناس والزجّ بهم في أتون الصراع من أجل البقاء.