على الحكومة ثمّ سرعان ما تطوى الصفحة لنهتمّ بعسر تشكيل الحكومة ونتكهّن بمختلف المسارات الممكنة وكأنّه لا مجال للتعامل مع هذا الموضوع بكلّ جديّة، وكأنّه لا مفرّ من اعتماد خطّة «الهجوم الدفاعي» وكأنّ التعامل مع هذا الملفّ لا يكون إلاّ من زاوية انفعاليّة، وكأنّه كتب علينا أن لا نفتح باب النقاش حول موضوع تسعى كلّ الدول إلى مواجهته بكلّ مسؤوليّة.
ولكن لِم يهاب المجتمع التونسي فتح النقاش العامّ؟ لم تتجنّب وسائل الإعلام الخوض في موضوع معقّد وخطير؟ وهل يمثّل موقف الهروب من مواجهة هذا الملفّ الحلّ الأمثل؟
نُواكب منذ سنوات المؤتمرات التي عقدت في مقرّات مجلس الأمن في نويورك ، وجنيف ونيروبي، والندوات التي أقيمت في أثيوبيا والنرويج والمغرب وسيريلانكا وغيرها من البلدان حول «عودة المقاتلين/الجهاديات/الأطفال» ،وحول برامج التأهيل وإعادة الإدماج فيزداد يقيننا بأنّ طريقة تعامل الدولة التونسيّة مع ملفّ العودة مثيرة للاستغراب فشتّان بين ما يصرّح به المسؤولون في الخارج من التزام بالقرارات الدوليّة والسياسات العامّة وموقف الصمت الذي يلتزمون به في الداخل وكذا الأمر بالنسبة إلى الوزارات التي انخرطت في خطّة العمل الوطنية فإنّها تستمرّ في التظاهر بأنّها غير معنيّة بهذا الموضوع، والحال أنّها تبنّت سياسات ظلّت إلى اليوم تفتقر إلى التنسيق الشامل.
وفي نفس السياق تتلقّى عدد من الجمعيّات المنخرطة في الحماية من خطر التطرّف العنيف والوقاية، والأمن والسلام... الدعم الأجنبيّ لإقامة الندوات وتنظيم دورات التدريب ولكنّها تظلّ ملتزمة بالصمت عندما تُعاين موجات الغضب الشعبيّ» . ولكن إلى متى يستمرّ هذا النكران والهروب والخوف من مواجهة الفئات الرافضة لعودة «الدواعش؟» أمّا آن الأوان لمصارحة التونسيين بالإكراهات التي تفرضها السياسات الدولية؟
لابدّ من التذكير بأنّ العودة قد حدثت بالفعل وهذا أمر لا مرية فيه إذ نجد في السجون التونسية عددا من الذين حوكموا بعد إدانتهم، وترد في بعض الدراسات الغربية شهادات لتونسيين وتونسيات تسلّلوا إلى البلاد قبل سقوط دولة الخلافة ، وهم يعيشون بيننا يتفاعلون مع الدارسين الغربيين بأريحية ويرفضون الإدلاء بأيّ تصريح للباحثين التونسيين لأسباب يطول شرحها، ومعنى هذا أنّ النقاش هو حول عودة صنف من التونسيين يقبعون في السجون والمخيمات وما عاد أمامهم خيار إلاّ العودة عبر القنوات الرسميّة بعد أن أضحى الفرار مستحيلا.
ولابدّ أن نشير إلى أنّ العودة المنظّمة أفضل بكثير من التسلّل إلى ربوع البلاد والتغلغل في النسيج المجتمعي ذلك أنّ مواجهة الملفّ حتّى وإن كانت أمنية، تبقى الإجراء الأفضل في ظلّ غياب الإمكانيات المادية التي تسمح بإنشاء الأماكن المخصّصة للتأهيل وإعادة الدمج لفئة يعسر إدانتها لغياب الحجج.
ويتعيّن علينا أن نصرّح بأنّه ليس أمام تونس خيار فهي مثلها مثل عدد كبير من البلدان مطالبة بإعادة مواطنيها ذلك أنّ المسؤولية تُلقى على عاتق الدول ولا يمكن أن تتكبّد العراق وسوريا وليبيا مصاريف إيواء هؤلاء سواء إن كانوا «مقاتلين سابقين»، (وهي التسمية الجديدة لمن ذهبوا إلى بلدان النزاع بدعوى الجهاد) أو داعمين لدولة الخلافة أو ضحاياها كالمراهقين الذين اختطفوا.
وعلينا أن نلفت الانتباه إلى التحيّز الجندري في التعامل مع هذا الملفّ إذ لازال المسؤولون والإعلاميون يتحدّثون عن الجهاديين/الدواعش/ متجاهلين الفتيات والطفلات والنساء اللواتي يُستبعدن من بنية الخطاب،والحال أنّ الدراسات الأخيرة تثبت أنّ منهنّ فئة تعدّ أشدّ خطورة على المجتمع من الرجال فهنّ يشرفنّ على حماية الأيديولوجيا الجهادية فيرسخّنها في عقول الصبيان، وأكثرهنّ لا يرغبن في العودة وسيسقنّ قسرا إلى بلدانهنّ.
ونذهب إلى أنّ موقف الرفض بدعوى تجنّب المخاطر غير مقنع فالعشائر العراقية التي أدانت من عادوا، وعاقبتهم بالوصم الاجتماعي والنبذ حوّلتهم دون قصد إلى أعداء جدد ولذا واصلوا الاستقطاب ثمّ فرّوا ليعودوا للانتقام من مجتمع لفظهم.
يقتضي بناء الديمقراطية المسؤولة مواجهة المصاعب بكلّ شجاعة لا الفرار منها ، وتتطلّب المواطنة المسؤولة البحث عن الحلول لا سدّ المنافذ ، وإذا لم نبادر(الحكومة والمجتمع المدني، والعائلات...) بفتح نقاش مجتمعي رصين ووضع السياسات الملائمة فإنّ «التقيّة» و«الستر» ستغدو من الوسائل المفضلّة لإدارة هذا الملفّ.