للمرة الثانية بعدما فرطت في الريادة لنداء تونس وخليفته تحيا تونس في هذه الخماسية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولكن تغير المناخات السياسية والنفسية بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية دفع النهضة إلى إضافة عنصر جديد وهو إعداد برنامج حكم بدل المفاوضات المضنية فقط حول المحاصصات وللأشخاص وتقاسم الحقائب الوزارية والسفارات والقنصليات ومناصب المدرين العامين والولاة والمعتمدين..
لهذا أعدت حركة النهضة منذ أيام قليلة وثيقة تفصيلية أسمتها بـ«مشروع وثيقة تعاقد لحكومة ائتلافية» وهي الآن بصدد عرضها على شركائها المفترضين وهم بالأساس التيار الديمقراطي (والذي تسلم هذه الوثيقة يوم الاثنين الفارط) وحركة الشعب وائتلاف الكرامة بالإضافة ربما إلى بعض النواب من بقية الأحزاب والمستقلين قصد سبر إمكانية تحقيق الحزام السياسي والبرلماني الكافي حول هذه الحكومة الائتلافية القادمة .
لاشك أن هذا المشروع الأول قابل للإثراء من قبل من سيقبل بالشراكة في الحكم مع النهضة ولكنه يكشف بوضوح عن تصور الحركة الإسلامية للحكم ولما يمكنها ان تفعل خلال الخماسية القادمة
نجد في هذه الوثيقة خمسة محاور أساسية :
1 - استكمال مؤسسات الدولة وتركيز الحكم المحلي
2 - مكافحة الفساد وتعزيز الأمن وتطوير الحوكمة
3 - مقاومة الفقر ودعم الفئات الهشة ومتوسطة الدخل
4 - النهوض بنسق الاستثمار والنمو والتشغيل
5 - تطوير التعليم والصحة والمرافق العمومية
وتفصل هذه المحاور في خمسين أجراء للإنقاذ كما تقول الوثيقة بحدود عشرة إجراءات لكل محور .
ولكن الغريب في هذه الوثيقة ان التزاماتها الدقيقة والمرقمة والمحقبة زمنيا تكاد تكون معدومة إذ تتكون الغالبية الساحقة من هذه الإجراءات على غرار الإجراء الخامس عشر «أحداث منحة المقدرة الشرائية للفئات الضعيفة والمتوسطة توظف لتوجيه الدعم لمستحقيه»
أو كالإجراء عدد 33» وضع خطة عاجلة لاسترجاع نسق إنتاج الفسفاط»
وعندما نجد التحقيب الزمني كما هو الحال في النقطة 23 لا نجد لا الأموال ولا الوسائل ولا المردودية الحسابية لهذا الإجراء «ضبط برنامج وطني على 4 سنوات لإعادة هيكلة المؤسسات العمومية وتطوير حوكمتها وتحديث نظم وأساليب عملها» ..
إذن ينبغي علينا الاكتفاء في المجمل بنوايا حتى وإن كانت هنالك عناصر مرقمة في صيغتها كالإجراء 17 الذي يبشر بوضع «مخطط متوسط المدى للتحكم في كتلة الأجور وربط الزيادة بالإنتاجية والتضخم بهدف تخفيض النسبة إلى %12.5 من الناتج مع سنة 2024» أي تقريبا ما وعدت به حكومة الحبيب الصيد ثم حكومة يوسف الشاهد في ما قبل ولكن دوما بتأخير سقف الانجاز ودون توضيح ماهي السياسات العمومية الكفيلة بتحقيق هذا ؟ هل هو التقاعد المبكر ام التسريح ام وقف الانتدابات ؟
نكاد نجزم بأن الإجراءات الواضحة والدقيقة – وهي قليلة جدا- لا كلفة مالية لها كالإجراء الرابع والقاضي بتركيز المجالس الجهوية وتنظيم الانتخابات الجهوية بالتزامن مع الانتخابات البلدية في سنة 2023.
والطريف هنا هو وجود بعض «الغمزات» باتجاه التيار الديمقراطي أولا وذلك بالقول بأن الفساد هو أصل كل المشاكل وكذلك باتجاه ائتلاف الكرامة بالتنصيص على صندوق الزكاة ضمن مؤسسات الاقتصاد التضامني في النقطة الثالثة عشرة مع العلم بأن هذا المقترح غائب تماما عن البرنامج الانتخابي لحركة النهضة .
ولكن ماهي الفلسفة التي تقود كل هذه القرارات ؟ في الحقيقة لا جديد تحت الشمس إذ نسمع مرة أخرى عن الإصلاحات الكبرى وأساسا إصلاح الصناديق الاجتماعية والمؤسسات العمومية ومنظومة الدعم وكتلة الأجور وحتى عندما تتحدث الوثيقة في إجرائها الأربعين عن التمييز الايجابي فهي تقدم تصورا مركزيا تقليديا باليا يتمثل في «تشجيع الإطارات للعمل في المناطق الداخلية عبر رصد تحفيزات هامة».
لكي لا نكون سلبيين فقط نقول بان مشروع برنامج حكم والنقاش حوله أفضل بكثير من حصر النقاش حول المحاصصة وتوزيع الحقائب والمسؤوليات ،ولكن برنامج حكم يتطلب تصورا عاما دقيقا وكذلك تصورا لجملة الموارد والنفقات خلال الخماسية ولكلفة كل إصلاح ولوضع إستراتيجية مرقمة ومحقة تسمح بالمحاسبة الدورية وبالمراجعة الضرورية ..
ونذكر جميعا تلك الجهود المضنية التي بذلت من اجل انجاز مخطط خماسي للتنمية (2016 - 2020) في ثلاث وثائق كبرى ،ولكن ما إن أنجزت الوثائق حتى وضعت على الرفوف ولم تعمد إليها مختلف مصالح الدولة لا من قريب ولا من بعيد واكتفت بالتصرف اليومي وبالتلويح بالإصلاحات الكبرى .
إلى حد الآن المشروع النهضوي لم يقطع مطلقا مع هذه الممارسة وبدل القطيعة التي ينادي بها في الظاهر نراه متناسقا في الجوهر مع حوكمة كل الحكومات السابقة منذ 2011 الى الآن.