الرئيس قيس سعيد أمام مجلس نواب الشعب: الخطـــــاب والمنهج

أصبح يوم أمس قيس سعيد وبصفة رسمية رئيسا للجمهورية التونسية بعد أدائه لليمين الدستورية في مجلس نواب الشعب

ثم قيامه بمراسم التسليم والتسلم بقصر قرطاج مع الرئيس المتخلي والقائم بمهام رئيس الجمهورية محمد الناصر ولكن الأساسي في هذا اليوم الجديد للتداول السلمي على السلطة في بلادنا منذ الثورة هو الخطاب الذي توجه به قيس سعيد إلى الشعب التونسي من منبر مجلس نواب الشعب.

خطاب يوم أمس كان منتظرا من الجميع وكان هاما جدا بالنسبة للرئيس المنتخب إذ هو الذي سيعطي الوجهة العامة لهذه الخماسية .

لقد حرص قيس سعيد في خطابه على المزاوجة بين أمرين اثنين : إرضاء الأنصار وطمأنة البقية من خصوم أو مترقبين،فالثورة مستمرة ولكن في إطار الشرعية الدستورية والقانونية وفي إطار استمرارية الدولة وكأنما الثورة والدولة توأمان عند قيس سعيد كما كانت الشريعة والحكمة عند فيلسوف العرب ابن رشد ولكن عند ابن رشد الحقيقة البرهانية الفلسفية هي المقياس وهي مرجع المعرفة فأي التوأمين سيكون المرجع عند قيس سعيد؟ الثورة أم الدولة ؟ أي التغيير الجذري لهندسة الحكم حتى تغير الثورة الدولة أم العمل من داخل ما تتيحه الدولة في هندستها الحلية لتحقيق بعض أهداف الثورة ؟

الخيط الرابط والناظم لخطاب قيس سعيد هو التوتر المستمر بين هذه الثورة «التي أدهشت العالم» وبين طمأنة الداخل والخارج وكل من يخشى من عهدة رئاسية جل ملامحها غير واضحة.لذا راوح الرئيس المنتخب بين «الثورة الفكرية» و«مجتمع القانون» والذي يقول لنا أنهما تحققتا خلال هذه الأيام والأسابيع الأخيرة وبين المحافظة على حقوق المرأة لتبديد المخاوف حول المحافظة الاجتماعية للرئيس المنتخب وكذلك هذا الوابل من الرصاص الذي سيطال كل إرهابي تجرا على إطلاق رصاصة واحدة ضد الدولة لطمأنة كل من يتخوف من بعض مساندي الرئيس الجديد والمشكوك في قربهم من التطرف الديني .

هذا التوتر بين «الثورة» و«الدولة» نجده أيضا عندما تحدث الرئيس عن الحسابات السياسية باعتبارها مفسدات للثمرة في تأكيد غير مباشر على ان صعوده وفوزه يمثل صفعة لكل الأحزاب ولآلاتها الانتخابية وشبكاتها الزبونية ولكن يُعظّم قيس سعيد من دور المنظمات الاجتماعية واتحاد الشغل بصفة غير مباشرة وكأنه يريد أن يقول انه يدين كل ما يقوله بعض أنصاره او المحسوبين عليه من تهجم على الاتحاد ومن تجييش ضده وبأن الاتحاد هو عنصر أساسي في «المنظومة» التي ينبغي محاربتها ..

نفس هذه الجدلية بين «الثورة» و«الدولة» نجدها عند الرئيس عندما يتكلم عن ضرورة احترام الدولة لكل تعهداتها ومعاهداتها ولكن هذا لا يمنع من مراجعة بعضها في سبيل ضمان أفضل لحقوق الشعب دون ان يذكر المعاهدات التي قد تكون معنية بهذه المراجعات أو أن يتحدث عن اتجاه المراجعة (كالتأميم مثلا) مكتفيا بالقول بأن التفاهم بين الشعوب أهم من المعاهدات ،ولكن لا يمكن لرجل القانون أن يغفل عن أن المعاهدة ملزمة وتترتب عنها حقوق وواجبات بينما التفاهم،وإن كان هاما، ولكنه لا تترتب عليه مصالح واضحة لأي طرف ..

نفس هذه المراوحة نجدها في حديث قيس سعيد عن القضية الفلسطينية إذ يقول فيها كلاما قويا ضد الاحتلال والظلم وان كل أحرار العالم لابد أن ينتصروا لهذه القضية ولكنه يتجنب تكرار ما قاله في المناظرة التلفزية من أن تونس في حالة حرب مع الكيان الصهيوني.

هذه المزاوجة بين ما تقتضيه الثورة كما يفهمها رئيس الجمهورية الجديد واكراهات الدولة أو الواقعية السياسية والديبلوماسية هي التي جعلت من هذا الخطاب لا يثير استهجان أي طرف هام على الساحة فالآراء حوله كانت ما بين الاستحسان التام والرضا النسبي واللوم الأكبر كان حول الصيغ الإنشائية الفضفاضة المحتملة لتأويلات عدة ..

ولعل العنصر الوحيد الذي افلت من ثنائية الدولة والثورة في شكلها الفضفاض هو حديث قيس سعيد حول استعداد عدد هام من التونسيين للتبرع بيوم عمل شهريا على امتداد خمس سنوات وان حلا كهذا حسب الرئيس قيس سعيد سيجنب البلاد ويلات المديونية وسيملأ خزينتها بعد ان كادت تنضب، ولكن يبدو ان

الرئيس لم يحط نفسه بعد بمن لهم دراية بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية وإلا لعلم ان اقتراحا كهذا وعلى افتراض تعميمه على كل موظفي الدولة لن يجلب للخزينة الا حوالي 500 او 600 مليون دينار سنويا والحال ان حاجياتنا للاقتراض للسنة القادمة فقط تكاد تضاهي عشرين مرة هذا المبلغ ، ثم ان هذا الاقتراح يتأسس أيضا على فكرة لم ينبس بها الرئيس وهي تجميد الأجور على امتداد كامل هذه الخماسية بما يعني فقدان الشغالين سنويا حوالي %10 من قدرتهم الشرائية ،وان خماسية قيس سعيد قد تساوي بالنسبة لهم خسارة لا تقل في كل الأحوال عن ثلث قدرتهم الشرائية اي تفقير مؤكد لصغار الموظفين دون حل يذكر لمسالة المديونية ..

يؤكد هذا المثال لوحده صعوبة النزول من الانشائيات إلى واقع الناس الملموس وان الحلول الجميلة في الأذهان ليست هي دوما كذلك في الأعيان ..

على كل حال هذا هو الموعد الأول لرئيس الجمهورية مع الشعب والمؤسسات والأكيد أن الخطة الموالية هي الأساسية عندما يكوّن ديوانه ويعين أهم مستشاريه حتى لا تكون درايته بمشاكل تونس الاقتصادية والاجتماعية مبنية على روايات سطحية وغير دقيقة .

قيس سعيد هو رئيس تونس الجديد لعهدة بخمس سنوات ،وفي نجاحه نجاح لتونس ولكل التونسيين وفي فشله، لا قدر الله فشل للجميع ، فلا ينبغي ان يراهن وطني واحد على فشل هذه الخماسية بل ينبغي فقط الإحاطة والمشاركة وحسن التوجيه والاقتراح والنقد والانتقاد كذلك ..

في الختام نقول شكرا لمحمد الناصر القائم بمهام رئيس الجمهورية الذي أدى الأمانة في وقت دقيق وحرص كل الحرص على ان يتم العود إلى المسار الطبيعي وفق ما يقتضيه الدستور وفي أحسن ظروف ممكنة .

محمد الناصر من بناة الدولة العصرية وقد انحاز للتيار الديمقراطي داخل الحزب الدستوري وكان من بين وزراء بورقيبة الذين استقالوا في 26 ديسمبر 1977 عندما أدرك بمعية رفاقه بان الصدام العنيف والدموي ضد اتحاد الشغل آت لا ريب فيه ..

لقد خدم هذا الرجل بلاده من مواقع مختلفة وفق اجتهاده وتقديره للأوضاع العامة للبلاد فشكرا له على اداء الأمانة، وكل تمنياتنا بالنجاح والتوفيق لقيس سعيد رئيس تونس الجديد .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115