لجنة المالية وسيصادق عليه (؟) المجلس القادم وقد تدافع عنه حكومة الشاهد إذ من المستبعد أن تكون لدينا حكومة جديدة قبل يوم 10 ديسمبر وهو الأجل الدستوري الأقصى للمصادقة على قانون المالية وميزانية الدولة للسنة القادمة ..
ولكن بغض النظر عن هذه الجزئيات الترتيبية فالسؤال المطروح هو ماذا ستفعل الأغلبية الجديدة بالاكراهات الضخمة التي ستجدها توازنات المالية العمومية والتي لن يقتصر تأثيرها على السنة القادمة بل سيمتد إلى كامل هذه الخماسية وذلك مهما حسنت النوايا ومهما عظم تفاؤل الإرادة .
مشروع قانون المالية وميزانية الدولة للسنة 2020 الذي قدمته حكومة يوسف الشاهد مشروع توازن محاسبي أساسا أي قائم على مجالات الإنفاق المتوقعة مع المداخيل الجبائية وغير الجبائية المفترضة واقتراض الفارق بينهما دون أي نفس إصلاحي يذكر.
ماذا تقول الأرقام الأساسية لمشروع قانون المالية لسنة 2020 ؟
47،227 مليار دينار هو الحجم الإجمالي للميزانية
11،678 مليار دينار هو خدمة الدين العمومي (أي ما تدفعه الدولة سنويا من أصل الدين وفوائده)
19،030 مليار دينار هو كتلة أجور الوظيفة العمومية
4،180 مليار دينار لدعم المواد الأساسية والمحروقات
6،900 مليار دينار نفقات التنمية
11،218 مليار دينار كحاجيات للاقتراض منها
8،848 مليار دينار من الخارج و2،400 مليار دينار من السوق الداخلية
تتطور هذه الميزانية بحوالي %15 مع الميزانية الأصلية لسنة 2019 وبـ%9.5 مقارنة بالميزانية التكميلية التي تجاوزت 43 مليار دينار .
لا ينبغي أن يكون المرء خبيرا في الاقتصاد ليدرك بيسر أن البلاد لم تستعد توازنها المالي الضروري وان الاقتراض في ارتفاع متزايد حتى ولو تقول لنا الحكومة انه سينخفض بنقطة في 2020 والأخطر من ذلك الارتفاع الجنوني لخدمة الدين الذي أضحى يناهز %10 من الناتج المحلي الإجمالي وحوالي ربع الميزانية وقرابة ضعف ميزانية التنمية . وهذا ما جعل الحكومة تذكر على استحياء امكانية إعادة جدولة بعض الديون!!!
يمكننا أن نمني النفس بما نريد وأن نعد بإصلاح كل شيء، ولكن ما لم تتحكم البلاد في نسق نمو إنفاقها وما لم يصبح نمو الاقتصاد اكبر من نمو الميزانية فلا إمكانية لنا لتعديل الأوضاع مطلقا ..
وهنا لابد أن نواجه حقيقة الأوضاع المالية للبلاد دون إتباع سياسة النعامة كما فعلت كل الحكومات المتعاقبة والغالبية الساحقة من الطبقة السياسية وجل نخب البلاد باستثناءات قليلة ..
نعيش كلنا على وهم أن الأموال موجودة وما ينبغي على الحكومة إلا أن تمد إليها يديها إما في الاقتصاد الموازي أو لدى المتهربين ضريبيا ..
لم نرد الاقتناع، إلى اليوم، بان بلادنا فقيرة ومواردها محدودة وأنها تستهلك أكثر مما تنتج على امتداد هذه العشرية وان إنفاقنا العمومي بصدد التفاقم وقد انفلت من عقاله فرافقه لجوء مطرد إلى التداين.وأن أولى الإصلاحات هي التحكم في المصاريف والحد منها قبل تمنية النفس بمداخيل جديدة.
ينبغي أن نتذكر أن اتفاق القرض الممد مع صندوق النقد الدولي ينتهي في ربيع السنة القادمة وان الحسابات العامة للدولة وضعف نسق النمو(%1.4 لكامل السنة الحالية مقابل %3.1 متوقعة في قانون المالية لـ2019) والتراجع المستمر لترقيمنا السيادي سيعسر كثيرا من شروط اقتراض البلاد وسيفاقم من انخرام توازناتنا..
إيقاف النزيف يعني ضرورة وبصفة فورية الحد من الإنفاق العمومي لا الزيادة فيه كما توحي بذلك جل الوعود الانتخابية وإيقاف الزيادة في كتلة الأجور والحد من نفقات الدعم والخصخصة الكلية أو الجزئية لبعض المنشات العمومية بهدف الحد من التداين عبر سداد القروض التي اضطرنا إليها بشروط صعبة (نسبة فائدة مرتفعة وفترة سداد قصيرة) وتخصيص الجزء المتبقي لدفع جديد وذكي للتنمية الجهوية .
لا نملك حلولا كثيرة ولا يمكن أن نعيش على وهم مداخيل إضافية ضخمة من بعض الإجراءات الجبائية فإدماج القطاع غير المنتظم أو محاربة التهرب الضريبي هي سياسات على المدى المتوسط والطويل،ولا تؤتي بثمار قوية في سنتين أو ثلاث ..
بإمكان الأغلبية القادمة (ولا ندري كيف ستكون وممن ستتشكل) أن تنسج على منوال سابقاتها : سياسة النعامة وتكرار نفس الأخطاء ومعالجة مشاكل البلاد بمنطق رجال المطافئ المتأخرين دوما على نشوب الحرائق، ولكن استباق الأزمات وشجاعة القرارات وإيجاد الأرضية المشتركة الضرورية لها مع الشركاء الاجتماعيين ومع الرأي العام مسالة عسيرة خاصة عندما قامت حملات أحزاب الأغلبية القادمة على عكس هذه السياسات .
الاقتصاد كالقطار لا يتوقف أبدا ولا يمكن تغيير مسالكه إلا على المدى البعيد بحكم تخطيط ورؤية تضع الأهداف والوسائل الجديدة وتصبر على الانجاز وتثابر عليه سنة بعد أخرى ..
يبدو أن نخبنا السياسية لم تتجاوز بعد مرحلة التفكير السحري خاصة عندما تكون في المعارضة ثم عندما تصطدم باكراهات الواقع مع مباشرتها للحكم لا تجد القوة الكافية لفهم ما يجري وشرحه للناس ..
ما احوجنا الى ثورة عقلانية في كل شيء ..