وستنطلق المفاوضات بين مختلف الكتل لتشكيل أغلبية حكم ممكنة تنطلق بها الخماسية القادمة. لاشك لدينا بأن التسونامي المنتظر الذي حصل في الدور الأول للانتخابات الرئاسية سيواصل موجته العاتية في التشريعية ولكن دون أن يعلم احد في أي اتجاه بالضبط مما يجعل هذه المحطة الأساسية في تشكيل ملامح الحكم غدا غامضة ومشوقة رغم الرتابة التي ميزتها وأثناء الحملة الانتخابية وغياب البرامج الواضحة والمقترحات المرقمة ..
الواضح اليوم أن غياب البرامج الدقيقة عند اغلب الأحزاب والائتلافات والاكتفاء بالشعارات العامة وبالوعود الفضفاضة قد رافقه ارتفاع هام في سقف التطلعات والانتظارات وخاصة من الفئات التي عاقبت منظومتي أحزاب الحكم والمعارضة خلال السنوات الثمانية الأخيرة ولكن ما لا يقوله السياسيون والمترشحون بالوضوح الكافي أن السلطة القادمة، وأيا كانت تركيبتها وتوجهاتها الفكرية والسياسية، ستجد نفسها امام معطيات الواقع الصلبة .
قد يتوقع بعض المترشحين والتيارات التي يمثلونها أن الحكومات المتعاقبة لا تقول كل الحقيقة وان البلاد لا تشكو من صعوبات هيكلية بل فقط من سوء حوكمة وانه يكفي أن يصل إلى السلطة أناس نظيفو اليد ولديهم كفاءة في التسيير لتنقلب الأمور رسا على عقب وليتمكن الحكام الجدد من الاستجابة لهذا الكم الهائل والمتصاعد من المطلبيات من كل فئات المجتمع ..
من تقوده هذه الأوهام سيكتشف بعد أسابيع قليلة المعطيات الصلبة لاقتصاد البلاد ..
مديونية مرتفعة تكاد تناهز %80 من الناتج المحلي الاجتماعي ونفقات عمومية لا يمكن التصرف فيها بالتقليص وخدمة دين تجاوزت 9 مليار دينار وموارد جبائية ،رغم ارتفاعها المطرد غير قادرة – لو حدها- على التقليص من نسق ارتفاع المدونية ..ومع كل هذا نمو اقتصادي ضعيف لن يتجاوز هذه السنة %1.8 وفق أكثر التقديرات تفاؤلا ..ومع هذا على السلطة الجديدة المصادقة على قانون مالية للسنة القادمة لا وجود فيها لإمكانيات تصرف تذكر مع مؤسسات عمومية تفاقم عجزها وتعثرت محاولات إصلاحها وأضحت تمثل جزءا من الأزمة بدل أن تكون عنصرا من عناصر نهضة اقتصادية في المدى المنظور ويضاف إلى كل ذلك عجز تجاري سيتجاوز في هذه السنة عتبة عشرين مليون دينار وعجز في ميزان الدفوعات رغم موسم سياحي ممتاز ..
وأصحاب السلطة القادمون – وبغض النظر عن مشاربهم الفكرية والسياسية وتوجهاتهم الاقتصادية - سيجدون أنفسهم ومنذ اليوم الأول أمام اكراهات صرف أجور الموظفين وجرايات المتقاعدين ومواصلة المشاريع المبرمجة وخلاص أقساط خدمة الدين ومحاولة ألا تنزلق المؤشرات العامة للاقتصاد من تضخم وقيمة صرف الدينار وعناصر العجز المركبة وطمأنة كل شركاء تونس حتى لا تتوقف تدفقات الاستثمار الخارجي ..
في ظل كل اكراهات المالية العمومية والضعف النسبي لموارد الدولة سيجد الحاكمون الجدد أنفسهم غير قادرين على تلبية سريعة وهامة لجزء من المطلبيات والتي كانت سببا من أسباب انتصارهم القريب وهنا ستكون السلطة الجديدة أمام خيارين أحلاهما مرّ : التوسع في الإنفاق العمومي كما فعلت من قبلها جل الحكومات ولكن النتيجة المباشرة هي تفاقم التداين وتعميق عجز الميزانية او محاولة إقناع عموم المواطنين بصعوبة الأوضاع وبثقل «التركة» ولكن عندها سيجدون أنفسهم مباشرة في صراع مع الفئات الاجتماعية التي انتخبتهم ...
لاشك أن السلطة الحاكمة بإمكانها إيجاد حلول لهذه الأزمات الهيكلية بانتهاج جملة من الإصلاحات الشجاعة بدءا من إصلاح عميق لحوكمة الادارة مرورا باصلاح جبائي شامل وصولا الى إنعاش جل محركات الاقتصاد ولكن ذلك يتطلب سنوات من العمل ومن السلم الاجتماعية.
من أهم عنصر في الاقتصاد وهو بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع والفاعلين الاقتصاديين والسياسيين .. ولكن الحكام الجدد والذين قد يكونون قد صعدوا إلى الحكم عبر استراتيجيات شيطنة سابقيهم لن ينعموا بفترة تفهم اجتماعية ولو كان ذلك بيوم واحد تماما كما كان حال سابقيهم وسيكتشفون بسرعة ان مساهمتهم غير العقلانية في رفع سقف الانتظارات سيكون عدوهم الأساسي متى صعدوا الى السلطة ..
وحده خطاب الصراحة والعقلانية والنزاهة قبل الوصول إلى السلطة هو الممهد لإمكانيات النجاح اذا ما حصل بالطبع على ثقة التونسيين أما من يبيع الأوهام أثناء الحملة فلن يجني سوى الأشواك بعدها حتى وإن كان في السلطة ..