ولكنها ستكون لحظة فقط تتلوها لحظات قد تغير بدورها كل التوازنات والمعادلات ..
لاشك أننا بصدد عيش لحظة «تسونامية» تمسح أحزابا وشخصيات وأفكارا ومقاربات ولكن من يعتقد أن هنالك استقرار للحظة القادمة يكون مخطئا فبلادنا منذ الثورة تعيش على وقع التجربة والخطإ وهي في كل لحظة انتخابية تقلب التوازنات السابقة ولا يدري احد متى ستتوقف هذه الجدلية الهادرة المتموجة ومتى ستستقر سفينة تونس في مياه هادئة تسمح بالتراكم الايجابي بعد سنوات (إلى متى؟) التجربة والخطأ.
ستنتخب تونس رئيسا وبرلمانا جديدين بتوازنات غير مألوفة وبسياسات أو مشاريع سياسات تريد تغيير اشياء كثيرة .
وسنشهد اصطفافات جديدة ومعارك طاحنة أحيانا واستقطابات قديمة/جديدة ولكن الأساسي في نظرنا يتجاوز كل هذا..
الخطر الأساسي الذي يتهدد تونس ما بعد الثورة ليس الأغلبية الحالية أو التي ستفرزها نتائج الصندوق أو تلك التي ستأتي في 2024..
الخطر الأساسي هو في استفحال قانون الغاب ،أي في مواصلة استضعاف الدولة من قبل كل «قبائل» تونس الحديثة والتي تتناسل أحيانا من بعضها البعض ..
ونحن هنا جوهريا أمام مفارقة الثورة الأساسية :هل ينبغي تحطيم الدولة الظالمة أم إصلاحها؟ وهل نصلحها بإضعافها أم بتقويتها ؟
يخطئ من يعتقد بأن الدولة الظالمة بإمكانها الاستمرار وضمان «الاستقرار» الى ما لا نهاية له ..
الدولة الظالمة لم تصمد في أي مكان في العالم لا حديثا ولا قديما فالقاعدة الخلدونية «العدل أساس العمران» قاعدة كونية تتجاوز العصور والثقافات والأديان..والدولة لا يمكن حصرها فقط في الطبقة السياسي التي تحكمها بل هي منظومات وسياسات وممارسات وثقافة تسيير وتقاليد حكم كذلك ..
في تونس مع الثورة سقطت أجزاء هامة من الطبقة السياسية الحاكمة ولكن بقيت كل المنظومات والسياسات وثقافة التسيير دون تغيير يذكر وذلك رغم التغييرات الكبيرة التي طرأت على الهيكلة الخارجية للدولة وإدخال حركية ديمقراطية داخل أهم مؤسساتها ولكن تسونامي الثورة اضعف الدولة وفكك بعض أوصالها فافقدها قدرتها الانجازية،فبقيت في ذهن اغلب المواطنين دولة ظالمة وضعيفة في آن. ديمقراطيتها للنخب المتنفذة وبلا مضمون قادر على تغيير شروط الحياة ولقد اشتغلت هذه الديناميكية الغريبة على ميكانيزمات دفاعية خطيرة تمثلت في هذه التكتلات القبلية الجديدة وفي اعتقاد جل هذه «القبائل» أن الحل الوحيد هو في افتكاك الحقوق بكل الطرق والوسائل بدءا من اعتصام في الطريق الى ايقاف الإنتاج الى فرض تنازلات مالية بما يؤسس لقانون الغاب مقابل عجز الدولة عن فرض القانون ..
الخطر المحدق بالبلاد هو انتشار مجالات وثقافة قانون الغاب والوهم بأن تحقيق «عدالة» جزئية بالقوة هو معركة في قلب الحق والحال انه مسمار آخر في نعش الدولة..
لا عيش ولا استمرار لدولة ظالمة ولكن لا مكان لعدالة ما أو لمساواة ما أو لإصلاح ايجابي ما، ما لم تكن الدولة قوية وقادرة ، فتقويتها هي الشرط الأساسي لإصلاحها،وتقوية الدولة تعني تسليم الجميع بضرورة انفاذ القانون على الجميع والإقرار بسلطة الهيئات التحكيمية مهما كان ضعف أدائها وغضبنا من بطشها او ما تكلس من أدواتها وطرقها ..
إن عدم إقرار النخب بحتمية احترام القوانين والهيئات التحكيمية سيدفع بتيار استضعاف الدولة إلى أقصى مداه وسيعيق كل عملية إصلاح ممكنة في الأفق المنظور .
قد يفرح بعض الحالمين بطوباويات مغرقة في مثاليات خالية بضعف الدولة قصد تفكيكها نهائيا باعتبارها أداة قمعية في جوهرها وانه لا مجال للعدل والمساواة دون التخلص منها .. هذه الطوباوية خطيرة لا على الدولة فقط بل على سائر المواطنين وعلى كل إمكانية للنهوض اليوم أو غدا ..
ان البديل عن الدولة الظالمة ليس تفكيك الدولة بل الدولة القوية العادلة التي تتأسس على عقد اجتماعي جديد قوامه توفير التميز والتفوق لكل بنات وأبناء الوطن دراسيا بداية ومهنيا في ما بعد وقدرة على التخطيط على المستوى البعيد لتوفير شروط الاقلاع الاقتصادي الفعلي وجعل كل مناطق التخوم مجاليا واجتماعيا مناطق لخلق الذكاء والثروة والنمو .
لا ضير على تونس من أية أغلبية أو طبقة سياسية يفرزها الصندوق، بل قد يكون التداول فرصة جديدة للمراكمة والتقدم وإصلاح الأخطاء.. الخطر كل الخطر هو في مواصلة استضعاف الدولة وفي عدم الوعي بان الدولة القوية العادلة هي شرط كل إصلاح ممكن في المجتمع .