مرشحها عبد الفتاح مورو لم يمر إلى الدور الثاني للرئاسية بل وبالنظر كذلك إلى عدد المصوتين للحركة الإسلامية ونسبتهم إلى جملة الأصوات المصرح بها والتي تسجل أدنى نسبة لها منذ 2011 بـ%12.88 أي دون نصف النسبة التي حصلت عليها النهضة في 2014 زمن هزيمتها أمام نداء تونس ،كما أكدت هذه الانتخابات التراجع المستمر للقاعدة الانتخابية النهضوية التي خسرت في ثماني سنوات زهاء المليون ناخب لتستقر في سنة 2019 في حدود 434530 ناخبا .
هذا هو عمق الهزيمة النهضوية وهو يتجاوز بوضوح عدم قدرتها على تجاوز الدور الأول رغم أنها رشحت الشخصية الأكثر شعبية داخلها والأقدر على جلب أصوات من خارج دوائرها التقليدية .
خيبة أمل الرئاسية أيقظت جراحا قديمة/ حديثة داخل الحركة الإسلامية وتم اتهام بعض قياداتها من قبل شخصيات وقيادات تاريخية هامة بإفشال حملة عبد الفتاح مورو وبالتطبيع مع الفساد والفاسدين وبخوصصة بعض هياكل الحركة لفائدة رئيسها كما قال ذلك صراحة القيادي محمد بن سالم وزير الفلاحة زمن الترويكا والنائب بالبرلمان لإذاعة ديوان اف.م وأن خيبة الرئاسية جاءت نتيجة الانقلاب (هكذا ) على نتائج الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشحي النهضة للتشريعية ..
اليوم قيادة النهضة أمام مفترق طرق مصيري فهي مطالبة بالاستقالة من بعض رموزها البارزة كزبير الشهودي المدير السابق لمكتب راشد الغنوشي او بتسليم المشعل وتقويم انحرافات «خوصصة» هياكل الحركة من قبل محمد بن سالم.
والأكيد أن حالة الغضب والاستياء من تحول النهضة إلى طرف غير أساسي في المعادلة السياسية قد ألمت اليوم بكوادر هامة داخل الحركة الإسلامية ولكن الوقت غير كاف لاستخلاص كل الدروس خاصة وان الانتخابات التشريعية على مرمى حجر كما يقال ..
ولكن الجديد بعد الهزيمة النهضوية هو الاضطراب في التموقع السياسي أو لنقل محاولة تغيير الاتجاه السياسي للحركة بـ180 درجة .
منذ لقاء «الشيخين» الشهير في باريس في أوت 2013 بين المغفور له الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي أصبح «التوافق» هو العنوان الأساسي للإستراتيجية النهضوية، والتوافق يعني التراجع عن التحالفات القديمة زمن الترويكا مع ما كان يسمى بأحزاب الثورة والتنظيمات التي تدعي الدفاع عنها –كروابط حماية الثورة – إلى «التطبيع» مع «المنظومة القديمة» في شكلها الذي جدده الباجي قائد السبسي .. وكانت هذه الإستراتيجية هي الملهمة للخط الأساسي للنهضة إلى حدود قرار مجلس شوراها تعين عبد الفتاح مورو مرشحا لها للرئاسية المبكرة رغم انف مكتبها التنفيذي وعلى رأسه راشد الغنوشي ،ولكن في النصف الثاني من الحملة الانتخابية بدأ الخطاب يتغير ودعوة «الصف الثوري» للتوحد حول «مرشح الثورة» عبد الفتاح مورو كما توجه رئيس حركة النهضة إلى مرشحي «الصف الثوري» للتنازل لفائدة مورو الأوفر حظا وقد ذكر بالاسم سيف الدين مخلوف وحمادي الجبالي والمنصف المرزوقي ..
والآن وبعد الإعلان عن النتائج الأولية للدور الأول تتجه النهضة الى دعم «مرشح الثورة» قيس سعيد في إشارة غير مباشرة الى تمثيل نبيل القروي للمنظومة القديمة ..
اذن خلال أسابيع قليلة تراجعت حركة النهضة بصفة جذرية عن إستراتيجيتها السياسية التي قادتها على امتداد هذه السنوات الست الأخيرة وكأنها تريد أن تقول بأنها غير مسؤولة على كل العهدة الحالية مادامت قد انتقلت من جديد إلى صف الثورة!!
لا يمكن ان نتصور ان منعرجا استراتيجيا كهذا يمكن ان يحصل بمثل هذه السهولة ودون أن يتم إقرار ذلك بصفة رسمية وفق قراءة نقدية لكامل هذه الفترة ..
لم يحصل اي شيء من هذا بما يفيد أننا امام اضطراب في الرؤية اكثر من تغير استراتيجي واضح ، ولعل النهضة تجد نفسها اليوم أمام وضعية غريبة مفادها ان «صف الثورة» أضحى من جديد اغلبيا لدى الراي العام مقابل تراجع وصراع كل تنظيمات وشخصيات ما يسمى بالعائلة الوسطية وأنها تبحث اليوم عن تحالفات جديدة لم تتضح عناصرها بعد..
والسؤال اليوم هل تسعى حركة النهضة -والتي ستساند قطعا قيس سعيد – لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في التشريعية ثم تعود «حليمة الى عادتها القديمة» ام قد تكون امام تحول جوهري في التموقع السياسي تقصد من ورائه النهضة قيادة «الصف الثوري » وتشكيل حكومة تكون متناغمة مع قيس سعيد في صورة فوزه برئاسة الجمهورية ؟
ولكن لو حصل هذا هل يمكن لقيادة «التوافق» ان تواصل قيادة «الصف الثوري» ام أن النهضة ستقدم على تغيير جذري في واجهتها السياسية تبعد بها رموز «التوافق»؟
ويبقى السؤال المصيري للحركة الإسلامية : هل ستتمكن قيادة جديدة من الحفاظ على الحد الأدنى من الوحدة وكذلك من الوزن السياسي أم أن هذا الاضطراب في المواقف سيدفع بالنهضة الى تصدعات داخلية وشروخ سياسية فتذهب بذلك ريحها. ذلك هو السؤال.