بل توجد بعض الديمقراطيات غير المكتملة (كما هو حال تونس ) حيث تكون فيها الانتخابات هي نقطة ضعفها الأساسية ..
في غمرة الأحداث اليومية ننسى أحيانا معاني الأشياء وفلسفتها الأصلية ..
على أية فلسفة قامت فكرة الانتخابات ؟
الفكرة الأساسية هي أن كل فرد يساوي صوتا واحدا أي انه لا وجود لكل أشكال التمييز الاجتماعي والجهوي والفئوي والجندري والجيلي يوم التصويت، وهذه الفكرة تأسست على مفهوم المساواة الأصلية بين كل أفراد الجنس البشري التي كانت ركيزة تفكير كل فلاسفة العقد الاجتماعي .
أما الفكرة الثانية فهي أن المجموعة لا يمكن أن تكون مخطئة، فما دمنا قد اخترنا بصفة جماعية، فاختيارنا -كأفراد متساويين– هو الأسلم، على الأقل زمن الاختيار ..
صحيح أنها رؤية مثالية – بالمعنى الفلسفي الايجابي للكلمة- للانتخابات ولكنها ضرورية لقيس مدى ابتعاد او اقتراب الممارسة العملية من هذه الفلسفة الأصلية ..
لقد أبقت الانتخابات في كل ديمقراطيات العالم – بما في ذلك تونس ما بعد الثورة – على المبدإ الشكلي : لكل فرد واحد صوت واحد ، ولكن إلى أي مدى يتساوى الأفراد خاصة قبل الانتخابات ، أي إلى أي مدى لا تباع ولا تشترى الأصوات ولا يقع جزء من الناخبين تحت وطأة الدعاية المضللة لبعضهم ؟ دعاية تقوم اليوم على العلاقات غير البريئة بين السياسة والمال والإعلام ...
إلى أي مدى نحن أمام ناخبين يتمتعون فعلا باستقلالية الإرادة وبحرية الاختيار ؟
زمن تزوير الصندوق في تونس قد ولّى وانتهى ، ولكن هل نكون قد دخلنا في زمن تزوير إرادة الناخبين ؟ أي هل توجد أجهزة ومطابخ واستراتيجيات تشتغل على تزييف الوعي ومن ثمة تزوير إرادة جزء من الناخبين ؟
هذا السؤال لا يهم تونس وحدها بل كل ديمقراطيات العالم تقريبا.. صحيح أن الناخب يدخل الخلوة ويختار يوم الاقتراع ولكن هل هو فعلا حر الإرادة ؟ هل اختار فعلا وفق مقاييسه الخاصة أم تمّ تزييف وعيه بفعل دعاية مضللة ومسترسلة وذات اثر عميق عند جزء من الناخبين ؟
نحن لا نتحدث عن دعاية الأحزاب والشخصيات أو الاتجاهات العامة للرأي ودور مختلف النخب في صناعتها ..نحن نتحدث عن عملية واعية ومنظمة لتزييف الوعي قصد إنتاج سلوك انتخابي معين لا يقال صراحة بل يبدو للشخص المعني وكأنه ثمرة من ثمار أفكاره..
لنأخذ مثالا على ذلك ..
في الانتخابات يصوت الناس لأحزاب بعضها يصل إلى الحكم وبعضها الآخر يقبع في المعارضة وجلّها يتوارى عن المشهد ..
من سيحاسب هي بالطبع أحزاب الحكم ، واتهامها بالفشل مسألة مشروعة تقوم بها عادة أحزاب المعارضة ولكن الترديد صباحا مساء ويوم الأحد بأن الأحزاب كلها فاشلة بمن يمارس فيها الحكم وبمن هو في المعارضة وبمن لا وجود له أصلا داخل المؤسسات، والتركيز على فشل المنظومة الحزبية دون تحديد أو تسيب وعدم الاعتراف لأحزاب الحكم أو لأحزاب المعارضة بأية مزية أو أي عمل ايجابي ،وعندما يتكرر هذا في بعض وسائل الإعلام الجماهيرية على امتداد الأيام والأسابيع والأشهر ماذا تكون النتيجة ؟
«لا يمكن أن ننتظر شيئا من منظومة الأحزاب هذه» وذلك دون تمييز أو تنسيب أو قراءة عقلانية هادئة للحصيلة الفعلية لكل واحد منها .. عندها نكون قد هيأنا الناخب / المشاهد إلى الربط الآلي والعميق بين سوء حالته كما يتصورها وبين «منظومة الفشل» هذه .. إذن الحلّ ، إن كان هنالك حلّ، يكمن خارج كل هذه الأحزاب ..
فمنظومة الأحزاب فاشلة وفاسدة وانتهازية على بكرة أبيها أما من هم خارجها فهم،افتراضيا على الأقل، الناجحون والنظيفون والمبدئيون..
وعندها يصبح التساؤل عن مصدر أموال هذه المجموعات خارج الحزبية غير ذي معنى فالأحزاب فقط هي الفاسدة والانتهازية والفاشلة، فينبغي إزاحتها وإعطاء الفرصة لهذه الشبكات التي خرجت من رحم غير معلوم وفي وقت قياسي ..
جزء هام من المواطنين في كل بلدان العالم يتلقون «الحقيقة» من وسائل الإعلام الجماهيرية سواء أكانت تقليدية أو جديدة وجلهم لا يملك الوقت والزاد المعرفي والعلاقات للتثبت من دقة وصحة الكم الهائل من المعطيات والأفكار والمواقف التي تنصب عليه وهو في منزله أو في سيارته أو أمام هاتفه الجوال .. فتتحول تدريجيا بعض «الأفكار» المتكررة إلى حقائق ثابتة لا يرقى إليها الشك ..
كما ترون الأساسي في تزييف الوعي ليست الدعوة الايجابية الواضحة لطرف ما بل التنفير المستمر والمنهجي لفضاء كامل بذاته باعتبار أن التنفير هو نوع من أنواع ممارسة «الفكر» النقدي وبالتالي يحظى بمصداقية مرتفعة عند المشاهد بينما لا تتمكن الدعاية المباشرة من خلق نفس هذا التأثير .. إذن فأنت لا تقول لهذا للناخب لمن يجب عليك أن تصوت بل توحي له بوجوب اجتناب كامل « منظومة الفشل» أي كامل المنظومة الحزبية بحكمها ومعارضتها وبالتالي فتصويتهم سيتوجه لغيرها ولاسيما لتلك الشبكات الزبونية الجديدة سواء أكانت حداثوية أو خيروية.
وهكذا يكون قد زيف جزء من الإرادة الشعبية قبل وصول الناخبين الى صندوق الاقتراع ..
لهذا ،ولهذا بالأساس، ترفض بعض «الإمبراطوريات» الإعلامية التقيد بأخلاقيات المهنة وبالدور التعديلي لمؤسسات الدولة لأنه بإمكانها ، رفع عمرو الى سدة الحكم أو الإطاحة بزيد، أو هكذا يبدو لها، ولكل رفع أو إطاحة فوائد لا تحصى وعلى كل المستويات ..
قلنا بأنه لا توجد ديمقراطية دون انتخابات ولا وجود أيضا لديمقراطية حديثة دون دور جوهري لوسائل الإعلام بمختلف وسائطها ولكن عندما ترفض وسائل الإعلام لجماهيرية لعب دور «الوسيط النزيه» عندها نكون بصدد قبر الديمقراطية حتى لو أبقينا على الأشكال الخارجية لانتخابات غير مزيفة.