مترشّحون أم مؤدّون يقدّمون عرضا على الركح السياسيّ؟

من مزايا الانتقال الديمقراطيّ أنّه حفّزني على إثراء ثقافتي السياسية فوجدتني أتّخذ قرار الالتحاق بمركز بحث تابع لجامعة ألمانية.

وكم كانت دهشتي كبيرة حين اكتشفت أنّ كلّ المحاضرات والبحوث التي ينجزها المنتفعون بمنح البحث من أمثالي، لابدّ أن تعقد صلة متينة بين العلوم السياسيّة والقانونيّة والفنون.

تذكّرت،وأنا اتابع محاورة المترشّحين للرئاسيّة، ما تعلّمته خلال إقامتي بألمانيا فتساءلت:ماذا لو غيّرنا عدسة التحديق وأدوات التحليل واخترنا أن نتأمّل في خطابات المترشّحين وأفعالهم من زاوية مختلفة؟ ألا توفّر لنا مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة فرصا للمتابعة والتحليل ومادّة ثريّة للنقد و«التنبير» والضحك والسخرية، ودافعا قويّا للانفعال والغضب؟ ألا يحتّم علينا «المشهد السياسي التونسيّ» أن نغيّر العُدّة المنهجية التقليديّة فنقرن العلوم السياسية بدراسات الميديا والفنون؟

يحرص «ملاّك القنوات» أكثر من غيرهم، على تنظيم «الحوارات» فيجهّزون الركح واللاعبين (رئيس/ة التحرير، محاور/ة وكرونيكورات، و«محلّلون» ...) للمأدبة أو «الفرجة». ويختار آخرون طريقة الحوار القائم على المواجهة «جيب السيف هيّ قابلني» أو Face to face . ويصنّف مُنتجو البرامج السياسيّة ضيوفهم وفق تراتبيّة هرميّة يتقاطع فيها الجندر مع السنّ مع الطبقة ...إذ «لا يستوي» العالم والجاهل: الرجال السياسيون «مذ ولدتهم أمّهاتهم» والمحنّكون و«ذوو السوابق» في الترشّح وأهل الفصاحة والبلاغة مع النساء الوافدات على عالم السياسية و«النكرات»، و«المتطفلين»... ولا يستوي من خَبر خفايا الكواليس، وما يدبّره أهل الإعلام فحصّن نفسه بتعويذة أو رقية شرعية أو استنجد بأنموذج «بورقيبة-السبسي، أو عقد الصلح مع هذا الإعلامي وذاك، ومن حضر، وهو بأسرار العمل الإعلاميّ غير عليم .ف«هل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» .

وبالرجوع إلى أداء المترشّحين على الركح ندرك الفرق بين الشخصيات البطلة و«الكومبارس»، والأدوار الرئيسيّة والأدوار الثانويّة، وننتبه إلى تفاوت المهارات. فشتّان بين المحترف الذي يتقن «تمثيل» دوره فيأسر قلوب الجماهير، فيبكي متأثّرا بمعاناة الكادحين، ويُظهر ألمه وورعه أمام «الزوايا»... وذاك العييّ الّذي يتلعثم أو تلك التي ترتبك فتخونها العبارات... ولهؤلاء، في الواقع، عذر إذ تعلّموا أنّه في يوم الامتحان «يكرم المرء أو يهان»....و لاشكّ عندنا أنّ المرور على الصراط عسير مهما استعدّ المترشحون واستأنسوا بنصائح خبراء التواصل، وله تبعات ذلك أنّ الفايسبوكيين لا يرحمون ولا «يسدلون الستار على عورات» المترشحين.

ودراسة «حركات الجسد» وإيقاع الأصوات مفيدة في هذا الضرب من الأداء.فكم من مترشّح لم يستطع أن يستمرّ في أداء دور السياسيّ «الكول» «حبيب الجماهير» فقطّب الجبين وعقد الحاجبين عندما استفزّه المحاور، وصرخ... وكم من «ممثّل» استغرق في أداء الدور ولم يتفطّن إلى أنّه يتحدّث مع التقنيين... وكم من مترشّح رفع السبّابة متوعّدا ... وكم من مترشّح لامس ربطة عنقه أكثر من مرّة أو جمع الكفّ متناسيا ما لقنّه إياه الخبراء من أنّ كلّ فعل تواصلي يشكّل علاقة اجتماعيّة...

وبصرف النظر عن جودة الديكور والإضاءة وفنيات كتابة السيناريو والحبكة من عدمها فإنّ عروض المؤدّين تُقدّم للجماهير باعتبارها «وجبة ساخنة»، وكلّ يستهلكها حسب حاجاته ومدى استعداده لفكّ شفرات العمل المسرحيّ... فيتأثّر قسم من الجمهور ويخال التخييل واقعا فيصدّق... بينما ينتبه قسم آخر إلى ركاكة الأداء وضعف الحبكة و...فيحدّثك عن تعالق الفنّ السريالي بأفلام «الأكشن» والكوميديا بالدراما وينتهي به الأمر إلى أن يلعن اليوم الذي صار فيه المتطفلون يعتلون خشبة المسرح.

ونزعم أنّ حدث الترشّح للانتخابات الرئاسيّة لسنة 2019 لم يكن إلاّ عرضا مسرحيّا فاشلا غابت فيه مقوّمات العمل الفنيّ وغاب فيه المبدعون العظماء وقد فوّت علينا فرصة تحليل الخطابات السياسيّة الثريّة ومقارنة مختلف البرامج المقدّمة وإمكانيّة رصد المبادرات القيّمة والسلوك السياسيّ المتميّز ... وحرمنا من متعة المشاهدة ولذا أخرجناه من دائرة الدراسات السياسيّة واعتبرناه فعلا سيميائيّا يتضمّن حدثا اجتماعيّا يحفّزنا على تأويل الصور والإشارات والألوان وغيرها.

بقي أن نعترف بأنّ «سيكولوجيا الجماهير» تسير في اتجاه مقابل فكم عدد اللّذين يقدّرون الإبداع مقارنة بمن يعشقون «بحبّك يا حمار»؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115