كيفيّة إجراء المناظرات بين مختلف المترشّحين والقواعد الضامنة للمهنية والنزاهة. ويعتقد أغلب المتابعين لوسائل الإعلام أنّ هذه البرامج المقترحة تشكّل محطّة هامّة في مسار تكريس الممارسات الفضلى لاسيما وأنّ التونسيين لا عهد لهم بمثل هذه البرامج. ولكن بالتمحيص في ‹المشهد الإعلاميّ-السياسيّ نتبيّن أنّه لا مجال للتعويل الكليّ على هذه البرامج إذ وجب الانتباه إلى المسافة الفاصلة بين المعلن/المضمر.
يزعم أصحاب هذه القنوات أنّ هدفهم تحفيز المواطنين على المشاركة في الانتخابات، ومساعدتهم على تبيّن خصال كلّ مرشّح/ة أو مساوئه، فيغدو بإمكانهم/هن تحديد مرشّحهم الأفضل، والحال أنّ غاية وسيلة الإعلام هي توجيه الرأي العامّ وفق الأيديولوجيا، أو الانتماء السياسيّ، أو المصالح وغيرها من الاعتبارات.وبناء على ذلك يغدو المتابعون ضحيّة عمليّة التلاعب بالعقول والعواطف... وليس من باب التجنّي أن نعتبر أنّ الإعلام صار في هذا السياق المفصليّ، جزءا من المشكلة .فهل بإمكان التونسيين أن يحافظوا على وضع المستهلك النهم والسلبيّ الذي يتقبّل كلّ ما يعرض عليه دون إعمال العقل واتخاذ تدابير اليقظة؟ وكيف يمكن للناخبين والناخبات اليوم التعامل مع هذه البرامج التي لا تلتزم بالضوابط والمعايير والقيم ؟
ويزداد الوعي بخطورة الوضع عندما نطّلع على ما تنشره المراصد من تقارير، والنقد الذاتي الذي يمارسه عدد من الصحفيين والإعلاميين الغيورين على القطاع والشغوفين بالإصلاح. ولعلّ أهمّ الانتقادات :استشراء الفساد، والتواطؤ بين عدد من السياسيين والإعلاميين، وتمكّن الأيديولوجيا من بعض الفاعلين، وغياب الإرادة والرغبة في النهوض بالقطاع.
وانطلاقا من هذا الواقع المتردّي يجوز لنا أن نتساءل: ما هي الأجندا المتحكّمة في مختلف وسائل الإعلام العمومية والخاصّة على حدّ سواء؟ ومن أيّ جهة يأتي التمويل؟ وكم عدد الإعلاميين المختصّين في إدارة الحوارات السياسية وفق ثقافة متينة تنهل من فروع معرفيّة متعدّدة( فنّ إدارة النقاش، علوم سياسية وقانونية، وعلم اجتماع سياسي، وأنتربولوجيا سياسية ، وفنّ التواصل وتاريخ المناظرات ....؟ وهل تستند هذه البرامج إلى المعايير الدولية؟ وما هي النتائج المترتبة عن البرامج الموّجهة التي يفتقر أصحابها إلى الكفاءة والخبرة أو تعبث بالقانون والضوابط المهنيّة؟
لا مراء في أنّ أزمة الشكّ في مصداقية وسائل الإعلام ، وخاصة منها المرئية باتت جليّة لاسيما بعد أن رأينا كيف تلاعب صاحب قناة بعقول المشاهدين، وعبث بالقوانين، وروّض عددا من «الإعلاميين» وأرسي قواعد وسلوك، وممارسات تنتمي إلى عالم المافيا. ولكن ما كان لصاحب هذه القناة أن يستأسد لولا وجود عدد من المساندين والمتواطئين والمشاركين في اللعبة. فكيف أمكن لعدد من السياسيين الذين يزعمون أنّهم يقاومون الفساد والظلم والتهميش و«الحقرة» أن يتخذوا من منبر هذه القناة «الخارجة» عن النظام فضاء لتمرير برامجهم الانتخابية/الإصلاحية؟ بل كيف أمكن لأبرز القيادات في حزب بمرجعيّة إسلامية أن يغضّوا الطرف عن هذا الفساد والتطاول على مؤسسات الدولة وهم اللذين اعتبروا أنفسهم مثالا في النزاهة و«نظافة اليد» وأوصياء على «الأخلاق» والقيم؟ وكيف أمكن للفاعلين السياسيين أن يكونوا على مأدبة من تورّطوا في عمليّات فساد يشاركونهم أفراحهم؟ وكيف أمكن لوجوه بارزة في «الاتحاد» أن تظهر في وسيلة إعلامية خارجة عن القانون ولا تعترف بمؤسسات الدولة؟
إنّ ظهور الوجوه السياسيّة والنقابية المعروفة والنخب الحقوقية و’المثقفة» في قنوات ذات أجندا مشبوهة، وقبولهم التحاور مع «إعلاميين» مورّطين في قضايا فساد يحوّل هذه القنوات إلى نماذج يقتدى بها، ويضفي عليها الشرعيّة المطلوبة، ويضرب العمل السياسي والإعلامي والثقافي في العمق، ويحطّم آمال من حلموا بأنّ الإصلاح والتغيير والبناء... ممكن. كما
أنّ هذا الظهور مكلف إذ كيف للتونسيين أن ينسوا الصمت المخجل لأغلب السياسيين على ملفّ القنوات المورّطة في الفساد والمتطاولة على «الهايكا» بالرغم من وجود البراهين والحجج؟ وكيف لأصحاب الذاكرة النشطة أن ينسوا الصفقات التي تتمّ بين أصحاب السلط: سلطة المال، والنفوذ، وسلطة الموقع السياسي وسلطة الإعلام؟ من حقّ التونسيين أن يتابعوا برامج سياسية تليق بشعب حقّق انجازات محترمة حتى وإن تعثّر المسار،ومن حقّهم أيضا أن يستمتعوا بمناظرات تخاطب العقل وتحترم المشاهدين، وتقدّم إضافة وتثري التجربة الفتيّة. فالحوار والمناظرة هي مناسبات تنافسية بين المترشحين توفّر لهم فرصة للتدريب على ترتيب الأفكار والردّ على الادعاءات بشكل عقلاني وبأسلوب مقنع، وتعتبر هذه النقاشات العلنية ذات وظيفة تثقيفية ومن شأنها أن توفر مادة على ضوئها يحدّد الناخب/ة اختياره.
ولا يذهبنّ في الظنّ أنّنا نطالب بترسيخ أنموذج «مناظرات القادة» الذي تأسس في الولايات المتحدة الأمريكية وانتقل إلى دول أوروبية كثيرة منذ أكثر من قرن من الزمن غاية ما هناك أنّنا نطمح إلى تأسيس أنموذج تونسيّ يعبّر عن أحلام شبابنا ويسمح للجماهير بتكوين موقف ويوفّر للدارسين فرصة قياس الرأي العام واتجاهاته لصالح شخصية مقابل أخرى.
تبدو مخاوفنا مبرّرة، ونحن نخوض مغامرة انتخابية تشوبها هنات كثيرة وتحيط بها مخاطر متعدّدة فهل لنا الكفاءات القادرة على إدارة المناظرات والحوارات التلفزية داخل المشهد السياسي المتسم بالتعقيد، والعنف، والعمل غير النزيه؟ ومن سيناظر من، وعلى أيّة قاعدة؟ وعلى أيّ أساس سيختار المتناظرون؟ وفي ظل غياب قانون تنظيمي يؤطر هذه البرامج ما هي الضمانات المقدّمة لحفظ «الوحدة الوطنية» وحماية الناخبين من عمليات «غسل الدماغ» ؟وفي ظلّ البؤس السياسي والثقافي وعدم وجود إعلاميين مستقلين،ونزهاء خاصة في المشهد السمعي البصري ووجود أزمة أخلاقية كيف يمكن للجماهير أن تطمئن؟.
لا حلّ أمام قوى التغيير إلاّ التوعية واستغلال كلّ الفضاءات من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه.