بعضها منتظر وبعضها جدي وبعضها ينتمي للأعراض الطفولية للانتقال الديمقراطي ..
الأرجح أن العدد الجملي للمترشحين خلال هذه الأيام الثمانية سيبلغ العشرات الكثيرة، ولعله يقترب أو يتجاوز رقم 2014 حيث كان في حدود 69 ثم تحصل الغربلة وقد ينزل هذا العدد إلى ما دون النصف، تماما كما حصل في 2014 حيث نزلنا من 69 إلى 27.. وإحدى المفارقات الغريبة هي أن يشغل هذا العدد الهائل (42 مترشحا في 2014) وسائل الإعلام بمختلف وسائطها والحال أن ملفات كل هؤلاء لا تستجيب للشروط القانونية الدنيا للترشح.
لعله قد آن الأوان أن تفكر هيئة الانتخابات في عدم التساهل ، مستقبلا، في قبول الملفات الناقصة لاسيما في الانتخابات الرئاسية حتى لا نعيش على امتداد أيام كثيرة على وقع ترشحات فلكلورية نرجسية تسيء إلى كل المترشحين الجديين وكذلك إلى سمعة بداية المسار الانتخابي الرئاسي.
ولكن حتى عندما يتم الإعلان عن القائمة النهائية فسوف نجد أن نصف المترشحين على الأقل لا يتوفرون على الجدية الدنيا لخوض غمار هذه المنافسة .
في 2014 تنافس في الدور الأول 27 مترشحا بعضهم أعلن عن انسحابه قبل يوم الاقتراع ولكنها كانت انسحابات بعد الآجال القانونية، فماذا وجدنا :
• 5 مترشحين فقط تجاوزوا عتبة %5
• اثنان فقط، باستثناء هؤلاء الخمسة تمكنوا من تجاوز %1 من نسبة الأصوات المصرح بها .
• 14 من المترشحين تحصلوا على أقل من 10.000 صوت لكل واحد منهم (من 2181 صوتا إلى 6723) والغالبية الساحقة لهؤلاء تحصلوا على تزكيات شعبية تفوق 10.000 إمضاء !!
ألسنا هنا أمام العبث بعينه؟! وهل ينبغي تكرار هذه المهزلة مدة عشرات السنين لنستفيق ولنعدّل ما يجب تعديله ؟
لا يناقش أحد في حق كل مواطن (ة) في الترشح للانتخابات الرئاسية متى استوفى (ت) كل الشروط القانونية لذلك ولكننا لسنا أمام مسابقة استعراضية ومن حق البلاد ككل ممثلة في مجموع الناخبين أن تكون أمامهم عروض جدية أو لها شبهة الجدية ولذلك وضعت كل الدول الديمقراطية التي يتم فيها انتخاب رئيس الدولة مباشرة من الشعب شروطا عسيرة حتى تقصى، ما أمكن، كل الترشحات الفلكلورية الفاقدة لأي معنى ومغزى سياسي سوى المرآة الشخصية العاكسة لنرجسية مرضية.
لقد اختار القانون التونسي صنفين من التزكية للمترشحين للرئاسة: تزكية المنتخبين (10 نواب أو 40 رئيس بلدية ) وتزكية الناخبين (10.000 ناخب على أن يوزعوا على 10 دوائر انتخابية على الأقل وبـ500 تزكية في كل دائرة ) وكان هذا النظام المزدوج ضروريا في 2014 حتى يتمكن كل مترشح جدي لا نواب له من اللجوء إلى التزكية الشعبية .
ولكن بينت التجربة أن عددا هاما من المترحشين يلجؤون إلى طرق ملتوية للحصول على هذه التزكية الشعبية ولا أدل من أن أكثر من نصف المترشحين في 2014 قد حصلوا على عدد من الأصوات يقل عن العتبة الضرورية للتزكية ..
قد يتساءل بعضهم : وما الضير في ذلك ما دام الصندوق هو الفيصل بين الجميع ؟
الضرر الأكبر هو للتنافس الديمقراطي الجدي أي لتوفير شروط الاختيار الدنيا لعموم الناخبين .
القانون الانتخابي والتوصيات المشتركة لهيئة الانتخابات ولهيئة الاتصال السمعي البصري يفرضان على الإعلام أن يتعامل مع كل المترشحين وخاصة خلال الحملة الانتخابية على قدم المساواة وان تخصص لكل المترشحين نفس أوقات ومساحات التغطية.
الواضح أن هذه الشروط نابعة من حرص أخلاقي على أن يلعب الإعلام دور الوسيط النزيه في الانتخابات، وهذا ما تمليه كذلك أخلاقيات المهنة للصحفيين.. فالإعلامي الذي يخدم بوضوح أو من خلف ستار مرشح على حساب البقية قد فقد صفته الإعلامية وتحول إلى مروج لبروباقندا حزبية او شخصية لا تمت بصلة لمهنتنا ..
ولكن كيف يمكن للإعلام أن يلعب دور النزيه الوسيط بين مختلف المترشحين والرأي العام مادمنا نعلم أن الترشحات غير الجدية هي الغالبة عدديا ؟ !
هل يمكن أن ندير نقاشا أو مناظرة بين 30 مترشحا في نفس الوقت؟! بالتأكيد لا ولذلك ترى أن دور الإعلام ينحصر خلال الحملة الانتخابية وخاصة في الإعلام العمومي على بث ومضات المترشحين فقط لا غير ..
لو كان لدينا عشرة مترشحين للرئاسية، مثلا، لكان الوضع مختلفا تماما ولتمكن الإعلام بصفة عامة وخاصة السمعي والبصري منه ذي الدور الكبير في كل حملة انتخابية من اجراء مناظرات بين كل المترشحين في أهم المواضيع التي تتعلق بالعهدة الرئاسية.
وهذه المسالة تزداد أهمية اليوم مع تقدم موعد الدور الأول للرئاسية على التشريعية اذ سنكون جميعا ولمدة حوالي ثلاثة أشهر تحت وقع الزمن الرئاسي .
في المحصلة هنالك صعوبات كبيرة، بل وشبه استحالة، ليلعب الإعلام (أو لنقل من يريد ذلك من وسائل الإعلام ) دور الوسيط النزيه مع وجود خطر لعب بعض وسائل الاعلام دور المروج لبروباقندا شخصية او حزبية مباشرة فجّة او خفية تتذاكى على عقول الناخبين ..
في الديمقراطية العصرية لم يعد من الممكن الحديث عن المجال السياسي منفصلا عن الفضاء الإعلامي .. دون ان يعني ذلك تداخلا مرفوضا في الادوار وان يكون الثاني في خدمة الأول .. ولكن لكي يلعب الإعلام دوره لابد من منظومة قانونية وأخلاقية متكاملة تجعل من المحطات الانتخابية الوطنية فرصا للحوار والنقاش والوقوف على الأفكار الجدية والتصورات لحاضر البلاد ومستقبلها، أما دون ذلك فستكون الآلات الانتخابية بأذرعتها الإعلامية الواضحة أو الخفية هي اللاعب الأول في انتظار قرار اللاعب الأساسي والأخير وهو الناخب يوم الاقتراع .