تنقيحات القانون الانتخابي في آخر يوم وفق الآجال الأكثر اتساعا للختم ؟ !
والغريب أننا كنا كلّنا نعتقد أننا أمام مسألة شكلية إذ بعد قضاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين برفض مطلب الطعن من حيث الأصل في دستورية التعديلات التي صادق عليها مجلس نواب الشعب أصبح للباجي قائد السبسي خيارات ثلاثة : إما ردّ القانون إلى مجلس نواب الشعب وإجباره بالتالي على المصادقة عليه ثانية بأغلبية %60 من النواب ،أي 131 نائبا بدل 109 سابقا،أو عرض هذا القانون على الاستفتاء نظرا لتعلقه بمسائل لها مساس بالحريات .. وعندما لم يستعمل رئيس الدولة لا حق الردّ ولا طلب العرض على الاستفتاء لا يبقى له،دستوريا،إلا ختم القانون في اجل أقصاه أربعة أيام .
ونذكر كلنا ذلك الجدل الذي قام حول احتساب آجال الردّ أو العرض على الاستفتاء هل ينتهي يوم السبت الفارط مع منتصف الليل أم يصل إلى يوم الاثنين مع منتصف الليل لأن الاحتساب لا يأخذ بالاعتبار إلا أيام العمل أي يقصي السبت والأحد..
وفي الحقيقة وراء هذا الجدال الشكلاني هنالك مسألة أهم وأعمق وأخطر وهي حاجة بعض «الأطراف» إلى مزيد من الوقت قصد إنضاج صفقة ما .
لنستحضر كامل عناصر الصورة : المتضررون من هذه التنقيحات وعلى رأسهم نبيل القروي صاحب حزب «قلب تونس» دعا في إطار حملة أرادها وطنية رئيس الدولة إلى طلب رأي الشعب بواسطة الاستفتاء، والنية واضحة : إلغاء العمل بهذه التعديلات في الانتخابات التشريعية والرئاسية وذلك حتى لو أقرها الاستفتاء نظرا لقصر المدة ولشبه استحالة إجراء استفتاء قبل فتح باب الترشحات للرئاسية ..
رئيس الجمهورية لم يتفاعل مع هذا المطلب مما جعلنا نعتقد بأنه سيختم القانون وبذلك تدخل هذه التعديلات حيز التنفيذ قبل فتح باب الترشحات للتشريعية..
ولكن يبدو أن المحيط المقرب لرئيس الدولة والمتضررين من هذه التنقيحات قد تفتقت أذهانهم بعد استشارة أهل «الرأي» على حل آخر يضمن المراد (انتخابات بالقانون الحالي) وهو عدم ختم القانون من قبل رئيس الدولة !!!
نعم فقط لا غير : عدم ختم القانون في آجاله الدستورية ..
عند كتابتنا لهذه الأسطر مازالت سويعات قليلة تفصلنا عن منتصف الليل أي مازالت آجال الختم الدستورية لم تنقض بعد ولكن ما الذي سيدفع رئيس الدولة الى فعل شيء في ساعة متأخرة من الليل ولم يفعله في الأوقات العادية للعمل ؟
لعل الفكرة الأولى للمحيطين بالرئيس كانت تدفع في هذا الاتجاه : الختم في آخر لحظة .. حتى لا يصدر القانون إلا في عدد يوم الثلاثاء للرائد الرسمي وبالتالي لا يمكن اعتباره في تقبل الترشحات للانتخابات التشريعية ..
ولكن يبدو انه تم التخلي عن هذا الرأي خاصة وانه بإمكان الحكومة نشر القانون منقحا في عدد خاص من الرائد الرسمي ليوم السبت أو الأحد وبالتالي تُجْبِر هيئة الانتخابات على اعتماده في قبول ملفات الترشح للتشريعية ..
عدم الختم هو الضمانة الأساسية لكي لا يعتمد القانون الجديد في التشريعية اذ لا ينص الدستور على أي عنصر اكراه أو ختم آلي في صورة انقضاء آجال الأيام الأربعة . كما لا يفترض كذلك أي إجراء «عقابي» في صورة عدم الختم في الآجال.. مما يترك الباب مفتوحا على المجهول..
ولكن كل هذا يفترض ان هنالك طبخة ما بصدد الإعداد بين طرفين أساسيين : المتضررون من التعديلات الجديدة وعلى رأسهم أساسا نبيل القروي من جهة ونجل الرئيس وصاحب باتيندة نداء تونس من جهة أخرى .
ويبدو حسب بعض التسريبات أن المفاوضات بين الطرفين على أشدها وأن يوم أمس قد يكون شهد لقاءا هاما بين الطرفين ويمكن أن نقول دون الاطلاع على أسرار الآلهة بأن المقايضة واضحة : «آش تعطيني وآش نعطيك» أي ما هو الثمن السياسي وربما المالي ايضا لعملية عدم الختم ؟ اي ثمن ترشح حزب نبيل القروي وفق مقتضيات القانون الحالي على الأقل في مرحلة اولى في انتظار احتمال تواصل عملية اللاختم إلى حدود فتح باب الترشحات للانتخابات الرئاسية.
لو حصل هذا السيناريو ودليله انقضاء منتصف ليلة يوم أمس دون ختم (وهذا ما لا يمكن القطع بمصيره الآن ) لكنّا أمام أكبر عملية سطو على مؤسسات الدولة، بل على أعلى هرم فيها .
لو لم يختم القانون الانتخابي في صيغته المعدلة يوم أمس فذلك لن يكون بحكم الإرادة الواعية والصريحة والمستقلة لرئيس الدولة لأنه لو رأى عناصر لا دستورية في القانون لرده إلى مجلس النواب أو لاستعمل حقه في عرضه على الاستفتاء ..
إن عدم لجوء الباجي قائد السبسي إلى إحدى هاتين العمليتين له معنى واحد دستوريا وسياسيا انه لا اعتراض له على القانون ، وهذا ما كان يسربه لبعض مقربيه الذين كانوا منذ أسابيع يدعونه لاستعمال حق الردّ فيقول لهم لو قالت الهيئة الوقتية بدستورية هذه التعديلات فمن أكون أنا لقول عكس هذا ؟ !
إذن - وبكل الحذر الواجب – لا يمكننا قبول فكرة أن عدم ختم هذا القانون (لو تأكد الأمر نهائيا وقطعيا ) كان بمحض إرادة الباجي قائد السبسي ..
عدم الختم يعني أن المحيط العائلي المباشر لرئيس الدولة هو صاحب القرار في هذه المسالة وهو الذي يتفاوض مع المتضررين من التنقيحات وربما مع غيرهم أيضا وهو الذي يقرر متى يختم رئيس الدولة هذا القانون المعدل ..
لا وجود لأي تفسير آخر يحترم العقل ومقتضيات السير الطبيعي لدواليب الدولة .
أملنا أن يكون كل كلامنا هذا من باب الخيال السياسي وان نستفيق جميعا يوم السبت وقد ختم رئيس الدولة هذه التنقيحات وذلك أيا كان موقفنا من مضمونها ومن جدواها ولكن لو أفقنا دون ان يحصل الختم فسنكون في أزمة حادة لم نشهد لها مثيلا من قبل رغم كل أزماتنا الحادة، سنكون لأول مرة في هذه الخماسية أمام رئيس دولة يتحكم في قراره ماديا وسطه العائلي المباشر . ويمارس عليه ضغوطا نفسية قوية لا يقدر على ردها..
كم نود لو نستفيق من هذا الكابوس ونحن على خطأ..
ولكن إطلالة حافظ قائد السبسي على قناة الحوار التونسي مساء أمس تبدد آخر أوهامنا..
لا يمكن لوالده -حسب ما يعرف عنه- أن يختم على قانون إقصائي وأن الرئيس هو الضامن للدستور في غياب المحكمة الدستورية وأن هذه التعديلات منافية للدستور.. وأنه مع عدم معرفته بما سيقدم عليه رئيس الدولة في السويعات المتبقية فإنه متأكد بأن الباجي قائد السبسي سيفسر قراره هذا اليوم لعموم المواطنين!!
وهكذا تأكدنا من وجود الصفقة فجماعة حافظ في البرلمان كانوا من أشد المتحمسين لهذه التعديلات وكانت المقايضة آنذاك مع الشاهد وحزبه هو ارجاع الباتيندة إليهم أما اليوم فالمقايضة مختلفة والعنوان براق: ضد الاقصاء، فالمقايضة مختلفة والعنوان براق : ضد الاقصاء، أما الواقع فمصالح سياسية ومادية متبادلة وتلاعب بالدولة وبالدستور في عهدة رئاسية وبرلمانيةتنتهي كلها بروائح غير صحية بالمرة..