لم نعد أمام سلسلة من الإخفاقات الجزئية والتي عادة ما نفسرها بصعوبة هذا التوافق العريض بل أمام إخفاق عام تتحمل أحزاب الحكم المختلفة مسؤوليته الأساسية ولا تعفى منه كذلك جل أحزاب المعارضة .
انتخبنا في خريف 2014 مجلسا نيابيا متكونا من 217 عضوا وكانت إحدى مهماته الرئيسية استكمال المؤسسات والنظام السياسي المتضمن في الدستور .. وكانت فلسفة المؤسسين وكذلك كامل الطيف الاجتماعي والسياسي المشارك في الحوار الوطني في صائفة 2013 هي أن يكون تركيز النظام السياسي بمنطق التوافق الوطني الواسع لا بمنطق الأغلبية والأقلية .
ولكن الأغلبية التي تشكلت منذ حكومة الحبيب الصيد اعتقدت أنها تملك لوحدها هذا التوافق الواسع وأنها ليست بحاجة لغيرها وأرادت أن تَقُدَّ المؤسسات المتضمنة في الدستور على مقاسها ونذكر جميعا ما حصل سنة 2015 في القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء وكيف أن الأغلبية تجاوزت بصلف الآجال الدستورية وأرادت أن تطوع ما أمكن لها ذلك السلطة القضائية بتعلة الخوف من «حكم القضاة» وكيف تواصلت هذه المساعي مع كل القوانين الأساسية أو جلها المنظمة للمجال السياسي وفق دستور 2014 وكأن الأغلبية الحالية تعتقد أن حكمها باق للأبد وأنها تشرع لنفسها لا للبلاد بصفة عامة.
ونذكر أيضا كيف تم التأجيل المستمر للانتخابات البلدية بتعلات مختلفة ولعل أهمها عدم جاهزية بعض أطراف الحكم فأحدثنا اختلالا دائما في دورية مختلف الانتخابات .. ثلاث سنوات ونصف دون انتخابات ثم ثلاث انتخابات في سنة ونصف ..مع العلم أننا لم ننجز خلال كامل هذه العهدة سوى ثلث أركان السلطة المحلية وهي المجالس الانتخابية في حين اجلنا الانتخابات الجهوية إلى اجل غير معلوم ولم نبدأ بعد حتى في التفكير في الأقاليم التي نص عليها الدستور باعتبارها سلطة السلط في الحكم المحلي ..
ونضيف إلى ذلك التراخي في إرساء الهيئة العليا المستقلة الدائمة للسمعي البصري إلى أن تجاوزت الهيئة الوقتية الحالية مدتها الأصلية..
كل هذا يدل أن هنالك توجها عاما قد يكون ضامرا يقضي بخيط النظام السياسي المنصوص عليه دستوريا على مقاس أمزجة المنظومة الحزبية الحاكمة والمعارضة أحيانا كذلك ..
ونضيف إلى ذلك آفة الغياب التي عبثت بأشغال المجلس على امتداد هذه الخماسية حيث كنا أمام مؤسسة تشتغل في المعدل العام دون %60 من أعضائها وهذا كاف لتدمير أية مؤسسة عمومية أو خاصة .
صحيح أن النائب ليس موظفا وانه لا يخضع لتوقيت إداري مضبوط وأن لديه التزامات مع جهته كذلك ولكن النائب يتقاضى منحة محترمة من المال العام وهو يتمتع شهريا بما يسمى بأسبوع الجهات وعليه فحضوره في الجلسات العامة وفي اللجان ليس ترفا أو مزية بل هو ما يفرضه عليه واجب تمثيل الشعب ، وهذا الثلث الغائب على الدوام ينعكس سلبا على أعمال المجلس ويسيء إلى صورته والى صورة النواب المنضبطين من كل الكتل .. إننا نجني هنا الاعتبارات المصلحية والزبونية في تشكيل عدة قائمات حيث دفعت أحزاب الحكم وحتى بعض أحزاب المعارضة بنواب جاؤوا إلى السياسة عن طريق الصدفة ولم يتحولوا بعد انتخابهم إلى مسؤولين
جديين عن مآلات الشأن العام فاضروا بالمجلس وبالبلاد وبصورة أحزابهم أيضا ..
وهنا تظهر أزمة حوكمة المجلس وهذا التساهل المذهل مع آفة الغياب وعدم فرض الانضباط بإجراءات صارمة ..
فكيف يمكننا أن نفهم غياب نائب طيلة شهر كامل مع حصوله على كامل المنحة بفضل إعلامه بعد غيابين عن عدم حضوره للجلسة الثالثة !!!
التلاعب بالقانون لا تقوم به فقط الشبكات الزبونية الخيروية بل هو آلية التهرب من المسؤولية داخل هذا المجلس ..
العدل يقتضي بأن النائب الذي يغيب شهرا كاملا عن أشغال المجلس دون عذر شرعي حقيقي (أي إجازة مرضية أو مهنية بالخارج في إطار عمله البرلماني ) لا ينال دينارا واحدا من المال العام وان تتناسب المنحة طردا فقط مع الحضور والا حكمنا على مؤسستنا النيابية وهي جوهر منظومة الحكم الديمقراطي بمآل سيزيف لا فقط خلال هذه الخماسية بل وفي كل الدورات اللاحقة..
لابد أن نحسن ظروف عمل النائب ولا ضير في ترفيع مناسب لمنحته البرلمانية وفي إعطائه كل الإمكانيات ليقوم بدوره التشريعي والرقابي على أحسن وجه ولكن دون ردع جدي للمتغيبين ستبقى كل المجالس النيابية القادمة تعاني من آفة الغياب ومن تعطل أشغال أهم مؤسسة دستورية في البلاد ..
يبدو أن برلماننا الحالي كمؤسسة لا كأفراد قد فقد بوصلته واكتفى بالتسيير اليومي الرتيب لاشغاله ولم يتمكن بحكم الحسابات السياسوية واستهانة هذا الثلث المعطل من الارتقاء إلى واجبه الوطني ..
لم نعد ننتظر شيئا يذكر من هذا المجلس ولكن لا نريد لبلادنا أن تتواصل هذه المهزلة في الدورات النيابية القادمة.