على هامش نتائج الدورة الأولى للباكالوريا: منظومة تربوية تعمّق الفوارق الجهوية ولا تنتج التميّز

تقدم أكثر من 130.000 تلميذة وتلميذ لاجتياز امتحانات الباكالويا نجح منهم حوالي 40.000 وتأجل نظيرهم ورفض أكثر من 45.000 وبتفاوت

مذهل بين مختلف جهات الجمهورية إذ سجلنا أدنى نسبة نجاح بولاية القصرين بـ 16٫08 % في حين حققت مندوبية صفاقس2 ثلاثة أضعاف هذه النسبة بـ 49٫32 % ..

بعد تهنئة الناجحين وتمني النجاح للمؤجلين لا بد أن نقف على حقيقة منظومتنا التربوية التي تعمق فوارقنا الجهوية من سنة إلى أخرى ولا تنتج مع ذلك التفوق المطلوب رغم بعض المعدلات المرتفعة جدا لبناتنا وأبنائنا الممتازين..

هنالك فكرة أساسية لا نريد بعد الاقتناع بها وهي أن قيمة المنظومة التربوية لا تقاس بمعدلات المتفوقين بل بالمستوى الدراسي العام لفئة عمرية بعينها وأن تفوق البعض في هذه الحالة هو كالشجرة التي تخفي غابة الاخفاق..

المنظومة المدرسية كفريق كرة قدم لا تستقيم إن كان فيها لاعب من طراز عالمي والبقية من الهواة المبتدئين، فالتفوق دائما للمنظومة لا للأفراد وهذا ما تعمل مدرستنا العمومية خلافه وبإصرار كبير وعلى امتداد ستة عقود..

لوعدنا إلى التوزيع الجغرافي لنسب النجاح حسب المندوبيات الست والعشرين (مندوبية لكل ولاية باستثناء تونس وصفاقس حيث نجد مندوبيتين في كل منهما) لوجدنا الفرق واضحا بين كل الولايات الساحلية الشرقية من بنزرت إلى مدنين التي تحتل المراكز الأولى بينما تأتي أول ولاية داخلية وهي زغوان، في المرتبة الرابعة عشرة وتكون نسبة النجاح دون 25 % في كل من سليانة وقفصة والقيروان وجندوبة وتوزر وتطاوين وقبلي والقصرين.. والحال على ما هو عليه بتغييرات طفيفة منذ عقود..

قد يعتقد بعضهم أن هنالك فوارق «ثقافية» تفسر تألق أبناء السواحل على نظرائهم في الجهات الداخلية وبغض النظر عن الخلفية الجهوية في هذا الاعتبار فهو خاطىء عمليا إذ لو عدنا إلى اختبار TIMSS في سنة 2007 وهو اختبار دولي يقيس مستوى تلاميذ الرابعة والثامنة أساسي في الرياضيات والعلوم لوجدنا أن النتائج الأفضل في الرياضيات والعلوم هي من نصيب تلاميذ ولاية القيروان .. ولوجدنا أيضا أن الفوارق بين صاحبي المقدمة والمؤخرة ، القيروان وقبلي ، في كلا الاختبارين لا يتجاوز %19.5 في الرياضيات و%12.6 في العلوم ، اي نحن بعيدون كل البعد عن الفارق بـ%300 الذي نشاهده في نتائج الباكالوريا .

يعني ان مستوى تلامذتنا في السنوات الأولى متقارب الى حد كبير رغم الفوارق الجهوية ومستوياتها التنموية ولكن المدرسة عوض ان تعالج هذه الفوارق التي تنتمي لما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيار بورديو الى «الرأسمال الرمزي» نجدها تغذيها وتنميها لا بصفة قصدية ولكن لان المنظومة تخلق التمييز ولان الدولة منذ السنوات الأولى للاستقلال لم تفعل شيئا لتوفير نفس الحظوظ والفرص لكل بناتنا وأبنائنا..

وقد يعود ذلك إلى اعتقادنا بأن مدرسة توفر نفس الفرص للجميع هي مدرسة ضد التفوق والتميز ولكن العكس هو الصحيح إذ يكفي أن نعلم أن منظومتنا التربوية لا تنتج حتى %1 من التلاميذ المتفوقين مقارنة بدولة كالفيتنام حيث تصل فيها هذه النسبة إلى %12 ويكفي أن نعود للاختبارات الدورية التي تقوم بها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) في إطار برنامجها (PISA) وهو البرنامج الدولي لمتابعة مكتسبات التلاميذ حيث نجد الإصرار على التلازم بين العدالة والتفوق في المنظومة المدرسية ..

ففي حين لا تبلغ نسبة تلامذتنا المتفوقين %1 (المستويات 5 و6 في اختبار PISA) يكون ثلثا تلاميذنا في المستوى المتدني او الضعيف (المستويان الأول والثاني )

ولكن لعل النسبة الأهم تكمن في قدرة التلاميذ المنحدرين من الفئات الشعبية على التفوق على أقرانهم من الطبقات الوسطى والمحظوظة،اذ تصل هذه النسبة في بلد كسنغفورة الى حوالي النصف (%48.8) بينما هي هزيلة جدا عندنا (%4.7)

والغريب ان هذه المسالة الحيوية لا تكاد تحتل اي حيز في النقاش العام حتى عندما نتحدث عن الاصلاح التربوي، اذ نتكلم عادة عن إصلاح البرامج والمناهج ولكن كيف نحقق المساواة في الفرص وكيف نقاوم هذه النزعة شبه الطبيعية في التمييز؟ فهنا لا نجد حتى بداية رأي فما بالك بملامح سياسة عمومية ..

يعتقد الجزء الأهم من نخبنا السياسية ان مطمح المساواة المدرسية متناقض هيكليا مع التوجه الليبرالي الاقتصادي في حين أن الدول التي قامت بجهد استثنائي خلال هذه العقود الأخيرة لمقاومة التفاوت المدرسي هي أكثر الدول ليبرالية بدءا بالولايات المتحدة الامريكية وسنغفورة واليابان وكوريا الجنوبية الخ..

الإشكالية الأساسية أمام إصلاح تربوي جدي وناجع أي يجعل التفوق افقا متاحا لجل بناتنا وابنائنا تتمثل في عدم قدرتنا على الإحاطة الذهنية بهذا المشكل وكأنه المغيب المنسي في الذهن التونسي اليوم ..

نحن نحتاج إلى ثورة كبرى للخروج من كل هذه المكبلات التي تحكم على أجيال بأكملها بانسداد الأفق..

ثورة تبدأ في الأذهان لتغير بعد ذلك ما ساء في الأعيان.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115