لاحترام مقتضيات الدستور وأطراف دينية - أو هكذا تقدم نفسها – تطالب باحترام مشاعر الصائمين وسلطة تنفيذية تتناقض تصريحاتها وتتوزع بين من يقول «نحن نطبق القانون» في إشارة إلى المنشور الشهير لسنة 1981 الذي يدعو لغلق المقاهي والمطاعم في رمضان باستثناء الجهات السياحية وبين من يرى أن هذه الممارسات لبعض أعوان الأمن هي ممارسات معزولة ومتوارثة وليست سياسة ممنهجة للدولة .. هذا دون الحديث عن الهستيريا التي تميز تناول هذا الموضوع في وسائل التواصل الاجتماعي فتغيب الحجة ويظهر السبّ والشتم وبذيء الكلام حتى عند أولئك الذين يدعون الدفاع عن المقدسات ..
لاشك أن مناقشة المسائل المتعلقة - ولو بصفة عرضية - بالمسائل الدينية والتعبدية تثير حماسة مفرطة في بلادنا وعادة ما تغيب فيها لغة العقل عند البعض ويتحول النقاش فيها إلى حوار للصم فلا إنصات ولا تفهم بل سرد لجملة من الحجج متفاوتة الأهمية فقط لا غير ..
عندما نتحدث عن مسألة ملاحقة المفطرين في شهر رمضان فنحن لا نتحدث عن شعيرة الصوم ولا عن قدسيتها بالنسبة للمسلم بل عن تنظيم الفضاء العام والحقوق والواجبات المترتبة عن العيش المشترك.
مسائل الهوية وتمظهراتها لم تحسم في تونس حتى وإن وجدنا في دستور 2014 عناصر أساسية للحسم ولكنها لم تتمثل بعد في المخيال الجماعي وفي الممارسات اليومية لجموع التونسيين .
هنالك سؤال بديهي لا نطرحه عادة على أنفسنا :على من فرضت شعيرة الصوم أو الصلاة مثلا ؟ أي من هو المطالب بها : الفرد أو المجتمع؟
يمكننا الإقرار بأنه على المجتمع إذا ما كانت اغلبية أفراده من المسلمين أن ييسر لهم ممارسة شعائرهم من صنف تعديل زمن العمل في شهر رمضان أو مراعاة توقيت صلاة الجمعة أو تنظيم عملية الحج. ولكن المجتمع لا يصوم ولا يصلي ولا يحج ، فهذه كلها فرائض فردية حتى وإن كان القيام بها يتم أحيانا بصفة جماعية .. فمن الناحية الدينية الفرد هو المسؤول عن أعماله ولا يمكنه أن يحتج بما تمليه عليه الجماعة إن لم يكن غالبيتها من المؤمنين وليس له كذلك أن يكره غيره على الإيمان ..
ما دام الأمر كذلك لم يغتاظ بعض المسلمين من إفطار بعض المواطنين في رمضان حتى لو كان ذلك في الطريق العام ؟ لم لا يغتاظ نفس الشخص من إفطار الأجنبي مثلا ؟ كل ذلك لأن مخيالنا مازال مرتبطا بفقه الجماعة أي بفقه الحلال والحرام كقاعدة جوهرية للسلوك الجماعي للناس ، والحال أن جل جوانب حياتنا في المجال العام لم تعد تنضبط لجدلية الحلال والحرام وان الإسلام الطقوسي بشكله الحنبلي الوهابي أصبح اليوم اقليا في بلادنا فلا ينزعج بالمرة احد المتجهين للمسجد لأداء فريضة الصلاة من تلك الأعداد الغفيرة في الطريق العام التي لا تشاطره نفس السلوك..
الإشكال عندنا يكمن أساسا في عدم جرأة الجهاز التنفيذي في تطبيق الدستور بكل مقتضياته وفي هذا النوع من الازدواجية بين القول والفعل ..
لا يجادل أحد حتى داخل الحكومة بأن المنشور الشهير لسنة 1981 هو مخالف لصريح الدستور ولروحه بل قد سبق لرئيس الحكومة يوسف الشاهد أن عبر في السنة الفارطة عن نيته إبطال هذا المنشور ولكن يبدو أن تطورات السياسة واكراهاتها جعلته يتغاضى عن هذا الوعد..
يكفي للدولة أن تلغي هذا المنشور اللادستوري وأن تمنع أعوانها من التدخل في حياة الناس وقناعاتهم سواء تعلق الأمر بالإفطار في المقاهي الفاخرة أو الشعبية فالأمر موكول فقط لأصحاب المقاهي ولروادها وكذا الأمر في الطريق العام اذ لا يسمح لا القانون ولا الدستور بالتعرض لشخص بـ«تهمة» الإفطار ولا يجوز للقاضي أن يتأول مسائل فضفافة في القانون كـ«الأخلاق العامة» أو غيرها ليؤول الإفطار على أساسها ، إذ المبدأ في التضييق على الحريات أن يكون ذلك بنص صريح لا يحتمل التأويل ، وكم نتمنى أن يصبح لدينا فقه قضاء ، في هذه المسالة بالذات حتى يتضح الأمر للجميع بأن التجاهر بالإفطار في رمضان ليس جريمة يعاقب عليها القانون..
لا نقول هذا استهانة بشعيرة كالصوم أو ازدراء لمشاعر الصائمين بل تنزيها للدين وللتدين من التصور السلفي الطقوسي المغلق الذي يرى في جرعة ماء او في لباس ما تهديدا للمقدسات !! فالمقدسات ليست بحاجة لهذا التعصب حتى تستقر في القلوب .
الدين يتجدد عبر التدين سواء باستنباط تأويليات جديدة لتفهمه او بالممارسة العفوية للمتدينين وكما قال الفقيد محمد الطالبي: الدين حرية بدءا بحرية الإيمان من عدمه إلى حرية ممارسة الشعائر من عدمها ..
ان ملاحقة بعض المفطرين في رمضان وفي الأماكن المغلقة إنما هو انتكاسة للحريات وللقانون وللدين معا والجدل المحتدم حول حق المفطرين من عدمه كذلك الجدل حول جنس الملائكة والذي أذهب ريح إمبراطورية عظمى كبيزنطة ، فرفقا بعقولنا في رمضان وغير رمضان .