خلال هذه الخماسية، وببعض الأحزاب الوسطى أو الصغرى التي تمثل أهم الحساسيات الفكرية والسياسية في بلادنا وأن التداول السلمي على السلطة -وهو رئتا الديمقراطية- سيستمر بينها أو بمن سيفد جديدا على هذه الساحة الحزبية وأن الانتخابات القادمة سينحصر دورها أساسا إما في تثبيت الأغلبية المنتهية ولايتها أو في اختيار معارضيها لاختبارهم في الولاية القادمة..
كل هذا التصور بصدد الانهيار الآن من سبر آراء لآخر إذ تبين كلها –المنشور منها وغير المنشور– بأن عقابا عاما سيشمل كل هذه المنظومة الحزبية بدرجات متفاوتة وأن قسما متزايدا من التونسيين سيولون وجوههم نحو صنف آخر من العرض السياسي لا ينتمي البتة لكل المخرجات الحزبية لما بعد الثورة.
وما يفيد أننا بصدد تحول عميق في المشهد أن الهروب الجماعي من الأحزاب لم يستفد منه ما يمكن أن نسميه بالعرض التقليدي للمستقلين بل صنف آخر لا علاقة له بالأحزاب ولا بما تعودنا على تسميتهم بالمستقلين..
الصنف الأبرز –ولا نقول الأكبر– من تجارب القائمات المستقلة من 2011 إلى اليوم ينتمي لنفس عالم منظومة الأحزاب التقليدية بل نجد أن جل المستقلين قد مروا بمختلف هذه التشكيلات أو كانت لهم تجارب في المحاضن السياسية الرئيسية في البلاد من نقابات وجمعيات وهيئات مهنية، وهذا الصنف من المستقلين حتى وإن حقق نجاحات جزئية مبهرة في بلديات 2018 إلا انه يبدو اليوم في عين الاعصار مثله مثل الغالبية الساحقة من التشكيلات الحزبية التي عرفها التونسيون بعد الثورة..
والسؤال الأهم هنا هو لماذا توجه جزء هام من التونسيين -يتجاوز النصف في بعض الحالات– عندما يريدون معاقبة أحزاب الحكم إما للحزب الذي يلفظ كل مخرجات الثورة (الحزب الدستوري الحر) أو للعروض «السياسية» غير النمطية (نبيل قروي وقيس سعيد وبدرجة أقل عيش تونسي) بدل التصويت بكثافة لأحزاب المعارضة (الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وغيرها..) التي ما انفكت تنتقد منظومة الحكم مطالبة الناخبين بمعاقبتها ؟ لم لا ينصت التونسيون للمعارضة وينصتون وبقوة لهذه العروض الجديدة؟
لو رمنا الدقة لقلنا بأن المجال الانتخابي لبعض أحزاب المعارضة قد يتوسع في الانتخابات القادمة (التيار الديمقراطي والجبهة الشعبية أساسا) ولكن دون أن تتحول المعارضة إلى بديل قادر على الحكم أو حتى وازن بصفة كبيرة في المعادلة السياسية القادمة..
الواضح من خلال كل عمليات سبر الآراء وأيضا من التحقيقات الميدانية بأن عامة التونسيين لا ينظرون إلى الساحة السياسية بمنظار السياسيين والمسيسين أي أنهم لا يميزون كثيرا بين الحاكم والمعارض فالكل عندهم حاكم وبالتالي فالكل عندهم مسؤول عن الفشل وعن سوء الأحوال ، أي وكأن التونسي لا يرى بعين الرضا المعارض الذي يرفع من سقف الانتظار النظري دون أن يكون قادرا على تغيير ولو بسيط لمعطيات الواقع العملي، فعندما يرى التونسيون نوابهم يتخاصمون في البرلمان يميز بعضهم بين أداء الحاكم والمعارض ويضع البعض الآخر الجميع في سلة واحدة عنوانها ذلك المثل الشعبي «الشكارة والبحر» أي التخلص النهائي من هذه المنظومة برمتها..
في الحالات العادية كان الأفق الوحيد المتاح لهؤلاء التونسيين الغاضبين على المنظومة السياسية هو العزوف عن التصويت كما لاحظنا ذلك في بلديات 2018 ولكن الجديد هو وجود عرض غير نمطي له وظيفة مزدوجة: التعبير عن رغبة ضامرة مع إظهار القدرة على إشباعها من جهة ومعاقبة شاملة للمنظومة بأكملها من جهة أخرى ..
بعبارة أخرى خيبة الأمل في منظومة ما بعد الثورة نتجت رغبة في العقاب ، رغبة تزامنت مع عروض غير نمطية تقوم هي بدورها على ضمان هذا الدور العقابي للمنظومة السياسية.
ولقد بدت خيبة الأمل هذه واضحة منذ بداية هذه الخماسية لأنها خيبة أمل مركبة.. جزء منها لا علاقة له بأداء زيد أو عمر بل هو خيبة أمل من الدولة ومن ممثليها وجزء ثان يرتبط بصفة أو بأخرى بالأداء أي الإخفاق في تحسين وضع الناس بغض النظر عن الحكم الموضوعي على وضع الأفراد والبلاد إذ العبرة هنا، كما في كل شيء، هي في تصور الأشياء وتمثلها لا في حقيقتها الموضوعية الباردة..
ما هو هذا العرض الذي هو بصدد «سحر» التونسيين اليوم : حزب يجرؤ على التنديد بالثورة وبكل مخرجاتها (عبير موسي) وشخصية تمثل لدى قسم من التونسييين ما بقي من ألق الثورة (قيس سعيد) ومشاريع سياسية في شكل أعمال خيرية تطوعية أي صياغة علاقة زبونية من صنف جديد.. هذه العلاقة التي كان وحده حزب التجمع قادرا عليها وحاولت فيما بعد بعض الأحزاب القيام بها كالنهضة والعريضة الشعبية والوطني الحر كما سعى النداء إلى استعادة جزء من الشبكة الزبونية القديمة للتجمع، ولكن الزبونية الجديدة التي نراها في نموذجي نبيل القروي وعيش تونسي قائمة على ابتكار عمل خيري منظم ومشبك ينبئ بقدرة فاعله على ضمان الدولة الراعية المانحة على عكس هذه الدولة البعيدة الصماء ويعد بالنجاح أين فشلت الأحزاب لابتعادها عن الناس..
بطبيعة الحال بإمكاننا أن نتساءل عن الأفق العملي لهذه الخيرية الزبونية ولقدرتها على حل مشاكل النمو والمديونية وغيرها ..
ولكن الزمن النفسي اليوم هو غير هذا الزمن والرغبة في العقاب تتصدر كل الرغبات إلى حد الآن..
والسؤال هل سيستمر وهج هذه الرغبة إلى يوم الاقتراع وهل ستقدر أحزاب الحكم والمعارضة عندما ندخل بصفة جدية في الحملة الانتخابية على تغيير موازين القوى لصالحها من جديد ؟
لننتظر ..