مرة مع الانتخابات البلدية والتي طالبت آنذاك جلّ الأحزاب بتأجيلها مرات ومرات ، مرة لعدم القبول بأحادية قرار هيئة الانتخابات ، ثم بعد ذلك لعدم استكمال تركيبتها ثم لعدم جاهزية البلاد إلى أن ذهبت بعض الأحزاب إلى الانتخابات وكأنها مرغمة على ذلك..
وما إن جرت الانتخابات البلدية في ماي 2018 حتى بدأت بعض المطابخ السياسية تروج لفكرة تأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية بسنتين كنوع من التمديد غير المعلن لهذه العهدة الانتخابية والحجة المقدمة كانت دوما عدم جاهزية البلاد لذلك.. ثم أعطت الاستقالة الجديدة لرئيس هيئة الانتخابات حجة إضافية لهذا التمشي. ولكن بعد أن تم ضبط المواعيد النهائية للانتخابات العامة اعتقدنا بأن ملف «التأجيل» قد أغلق نهائيا ولكن ظهرت هذه الدعوات من جديد وأعيد تقديم نفس الحجج السابقة مع إضافة أخرى لها ..
البلاد (الأحزاب) غير جاهزة وهنالك خشية من انتصار قائمات مستقلة مجهولة الأفكار والأموال علاوة على المخاطر الإقليمية على حدودنا الشرقية واحتمال توافد أعداد ضخمة من الهاربين من معركة طرابلس .. وتقدم بعض الحجج الطريفة الأخرى من صنف غلاء المعيشة ولكن تبقى الحجة الأكبر هي وجود حكومة معنية بالانتخابات وبالتالي حكومة غير مؤتمنة على نتائج الصندوق لا في يوم الاقتراع بل في المناخات المؤدية اليه .. والحل هو في تعيين حكومة كفاءات مستقلة على نمط 2014 وتأجيل الانتخابات العامة من خريف 2019 إلى ربيع 2020.
ما نلاحظه هو حجم الخفة والتساهل الذي يتعامل به صنف من السياسيين مع المواعيد الانتخابية وكأنها عنصر تكميلي فقط للعملية الديمقراطية اذ بقدر ما كان بالإمكان تأجيل أول انتخابات بلدية بعد الثورة، فإن الحديث عن تأجيل للتشريعية او للرئاسية إنما هو تجاوز واضح لنص الدستور الذي يحدد فترة تجديد العهدة كما أن هنالك سوء تقدير كبير لانعكاس تأجيل مواعيد دستورية على سمعة البلاد وعلى جدية العملية الديمقراطية ككل .
يبدو أن جل المنادين بتأجيل انتخابات 2019 يتواجدون في الأوساط المقربة من رئيس الدولة فيما كان يعرف بإستراتيجية التوريث الديمقراطي ،اي إفساح المزيد من الوقت للنجل وصحبه حتى يكونوا قادرين على الوصول إلى السلطة وذلك إما بعهدة ثانية للباجي قائد السبسي وإن استحال الأمر فبتمديد هذه العهدة الحالية بسنتين بحجة الخطر الداهم (الفصل 80 من الدستور ) والذي قد يبرر تاجيل الانتخابات التشريعية (الفصل 56) أو الرئاسية (الفصل 75) ولكن حتى لو عدنا لهذين الفصلين فسنجدهما يتحدثان بوضوح عن تعذر إجراء الانتخابات في موعدها ، اي ان معاينة التعذر لا تحصل نصف سنة قبل الموعد بل في فترة الموعد بالضبط لو تبين استحالة إجراء الانتخابات نتيجة خطر داهم يهدد أمن البلاد.. وحتى في هذه الحالة فينبغي أن يحصل التمديد بمقتضى قانون أي أن تكون هنالك أغلبية مساندة له وترى أن مبرر استحضار الخطر الداهم وجيه ..
ولكن يبدو أن أنصار «التوريث الديمقراطي» بعدما خسروا كل شيء وكأنهم يريدون اللعب في الوقت البديل مشككين ، منذ الآن ، في سلامة العملية الانتخابية وفي شفافيتها وفي الحقيقة هم يفضحون للعيان عدم استعدادهم الكامل لهذه الانتخابات ويتوجسون خسارة كل شيء : السلطة والحزب وحتى إمكانية التواجد الأدنى صلب أحزاب المعارضة غدا ..وهكذا يكون تأجيل الانتخابات هو «الحل» الوحيد الذي يمدد في البقاء في السلطة وفي امتيازاتها لسنتين قادمتين في انتظار التخلص النهائي من دورية الانتخاب هذا «الحلم» الذي يراود بعضهم بسلطة دائمة هو من صنف أحلام اليقظة ومن لا يستفيق منه اليوم سيظل يغط في سبات عميق يحلم فيه بعالم مواز تتحقق فيه الغواية الابليسية كاملة : شجرة الخلد والملك الذي لا يبلى..