الجماعة على الفرد. ولذلك يحرص الفاعلون في مجال التنشئة الاجتماعيّة وفي جميع المؤسسات التربوية والاجتماعية والدينيّة وغيرها على «تكليف» الأخ وابن العمّ والزوج والشيخ و«العطّار» والأمّ والحماة والمعلّم والتلميذ... بمراقبة الأخت والأمّ والزوجة... وينجم عن ذلك شرعنة التدخّل في حيوات الآخرين وتحوّل التلصّص على الآخرين إلى واجب أخلاقي ودينيّ يثاب عليه المرء فهو مندرج تحت باب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». أمّا التدخّل في شؤون الشابّات والنساء عموما فإنّه علامة على «الرجلة» إذ يعتبر المجتمع أنّ من حقّ وواجب الرجال مراقبة النسوان وممارسة سلطة عليهنّ حتى ينضبطنّ للمعايير والتقاليد والأعراف.
ولئن أدّت التحولات الاجتماعيّة والتشريعيّة واكتساب المواطنين وعيا إلى الحدّ من تلصّص بعضهم على الآخرين بحكم النصوص الحامية للحرّيات الفرديّة فإنّ إرهاصات إحياء «الحسبة» في السنوات الأخيرة، باتت مرئية. ومن هذا المنطلق لا نعتبر رفع قضيّة بالأستاذة سلوى الشرفي وإدانتها بسبب تدوينة وضّحت فيها بعض الآراء المتداولة حول الممارسات السائدة في بعض غزوات الرسول إجراء معزولا عن سياق انتشار هذه المحاولات التي تهدف إلى تثبيت ممارسة الحسبة في بلادنا. فبعد أن كان الشيخ/المحتسب هو المكلّف بمراقبة تصرفات الناس وأقوالهم وأفعالهم صار المحامي/الإمام يتربّص بالآخرين بدعوى المنافحة عن الإسلام والرسول والله والمقدّس ..
ولكن علينا أن نتذكّر أنّ الحسبة صارت تكتسي أهميّة في بعض البلدان المجاورة، وتمثّل تهديدا جديّا للمبدعين والمثقفين بالرغم من توفّر مواد تشريعيّة تضمن الحريات الفرديّة. وفي الواقع للحسبة تاريخ، وللمحتسبين الجدد «رنّة وشنة» إذ يعتبر المحامى نبيه الوحش والشيخ يوسف البدرى من أهمّ محترفي رفع القضايا في مصر وقد نالا شهرة كبيرة وصارا من «نجوم الحسبة». أمّا المبرّرات التي تشرعن رفع قضايا الحسبة فإنّها تجمع في خدش الحياء العامّ، ازدراء الأديان، شتم الرسول، إنكار معلوم من الدين، والكفر، والإساءة للذات الإلهية... ولضحايا من اغرموا بتتبع كلّ شاردة وواردة قصص وأخبار نذكر على سبيل المثال نوال السعداوي ونصر حامد أبو زيد وغيرهما من الروائيين والصحفيين والممثّلين والمخرجين و....
وفي تونس اعتدنا أن يهلّ علينا مع أوّل يوم من شهر رمضان «عادل العلمي» الذي يتفرّغ خصيصا في هذا الشهر «الفضيل» لمراقبة المقاهي المفتوحة فيجنّد فريقا يتربّص بكلّ مفطر: يصوّره ويشهّر به على موقعه الخاصّ. ولئن كنّا نجهل درجة الثواب التي سينالها «الشيخ» إذ لا يعلم الغيب إلاّ الله، فإنّ النجوميّة حاصلة والفضل يعود إلى فئة من الصحفيين المتهافتين على أخبار «العلمي» وكأنّه بات «المثقّف العضويّ» بامتياز. ومع كلّ سنة يتّخذ النقاش حول الحقّ في الإفطار في رمضان سمة خاصّة فتظهر مبرّرات عجيبة. فـ«البحيري» القياديّ في حزب النهضة المشارك في صياغة دستور تضمّن عدّة مواد تلحّ على ضمان الحريات الفرديّة وحريّة الضمير والمعتقد يعتبر أن مبرّر غلق المقاهي يعود إلى «احترام الذوق العامّ والأمن العامّ واحترام مشاعر المفطرين». ولا نخال «البحيري» ملّما بما يرتكز عليه الذوق من مقوّمات وما يرتبط به من مقامات ،ولا نرى في توظيف حجّة حفظ الأمن العامّ ما يقنع ...إن هي إلاّ مبرّرات تكشف عن حيرة الذين «تورّطوا» في إقرار مواد «حقوقيّة-حداثية كونية» فإذا بهم اليوم أمام مأزق جعلهم يتجاهلون الأنموذج التركيّ ويميلون إلى تطبيق الأنموذج الخليجيّ.
وليست محاولات الرجوع إلى إحياء وظيفة المحتسب الرسميّ في تقديرنا، إلاّ حجّة على عسر تجذير الحريات الفرديّة في مجتمع لا يزال غير مستوعب للفردنة والفردانية والتفرّد، وغير قادر على القطع مع ممارسات نشأ عليها فصارت «طبيعيّة» ومألوفة بل مقبولة اجتماعيّا.أفليس من الطبيعي أن نسترق السمع ، وتشرأبّ أعناقنا إلى ما يحدث في الغرف الأخرى، ونتابع من النافذة ما يجري في الشارع، ونحدّق في لباس وأجساد المارّات...؟
ولأنّنا لم نتعلّم احترام خصوصيات الآخرين ولم نمارس لجم حبّ الفضول، ولم ندرّب حواسنا على «غضّ البصر» وعدم استراق السمع فإنّ ما يحدث في شهر رمضان بالخصوص، من محاولات لإحصاء عدد الصائمين والمفطرين، ومن حرص على التدخّل في شؤون الناس وضبط ممارساتهم ومحاكمتهم ليس إلاّ عيّنة تفضح العطب الحقيقيّ في التربية. ...
وما دمنا نجد صعوبة في فهم ما تقوم عليه المواطنة والحرّيات الفردية من أسس فإنّ التلصص والتربّص وتنظيم حملات ‘استر أختك خلّي الناس تصوم» مستمرّة.