الموالاة ورفض واستغراب من المعارضات، ولكن وبغض النظر عمّا يثير الاشمئزاز أحيانا في الحوار السياسي هل تعيش الساحة العامة فعلا أزمة أخلاق وهل نحن متفقون على مضمون «الأخلاق» أم لا ؟
ما من شك في أن التراشق بالتهم والسباب الذي يبلغ أحيانا مسامعنا يجعلنا نعتقد بأن طبقتنا السياسية لا تلتزم دوما بما نعتبره معايير أخلاقية عامة في التعامل ولكن هل هذه المظاهر المدانة هي فعلا المؤشر الأبرز على الأزمة الأخلاقية في حياتنا السياسية ؟
المفروض أن العنصر الأول في أخلقة العمل السياسي ينبغي أن يتعلق بنظافة يد السياسيين وبعدم خضوعهم للوبيات المال والمصالح وعدم ارتهان ضمائرهم مقابل منافع ومكاسب من أي صنف كانت.
والواضح أن اختراق الفساد لبعض أوساط السياسة في بلادنا لا يتم في العلن ولا يحصل حوله سباب وشتم بل يتم بوجوه منشرحة وابتسامات عريضة ..
إن اكبر مهدد للأخلاق وللسياسة وللبلاد ليس ذلك الشجار أو حتى السباب الذي يحصل بين الفينة والأخرى في مجلس نواب الشعب أو خارجه بل هو تسرب الرشوة والفساد داخل الطبقة السياسية فتفقد السياسة نبلها وتحصل قطيعة كلية أو جزئية بين الشعب ونخبه السياسية. وأخلقة العمل السياسي تبدأ أساسا باستبعاد كل المرتشين والمشبوهين منه وبغرض احترام صارم وكامل للقانون في تمويل الأحزاب وخاصة تمويل حملاتهم الانتخابية وهذا ما لم نتقدم فيه إلى الآن ولو قيد أنملة إذ كل الخروقات التي سجلتها دائرة المحاسبات (محكمة المحاسبات الآن ) في الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2014 بقيت دون أي تتبع قضائي ودون أي ردع..
لا أحد يحبذ مناخات التشنج القصوى والاتهامات المتبادلة بالفساد والخيانة والعمالة ولكن لا ينبغي أن نخطئ الهدف : أخلقة العمل السياسي تمر حتما عبر تخليصه من مختلف أشكال الفساد التي تسربت إليه ولكن الرقي بالحياة السياسية يتطلب كذلك أن يتمحور النقاش العام حول الأفكار والمشاريع والاقتراحات ولهذا شرط أساسي لا يتوفر بالقدر الكافي عند طبقتنا السياسية وهو وضوح الأفكار واختبار إمكانيات التنفيذ ثم الالتزام الصريح بها لا محاولة تقديمها في شكل مغر لا يراعي إلا مدى حسن تقبلها من الجمهور ..
هذا «الخوف» المفرط من غضب الناخبين جعل الخطاب السياسي المعلن لجل الأحزاب السياسية يكون تمويجات من لون واحد فالكل يريد الدولة الديمقراطية الاجتماعية ويهدف إلى تحسين مستوى عيش المواطنين الخ .. ولا أحد يتجرأ على توضيح تصوره في المسائل الخلافية وفي استجلاء تبعاتها ..
فمن يدعو إلى الحد من التداين مع زيادة الإنفاق العمومي لا يذهب مطلقا إلى نهاية أفكاره ليقول لنا هل سيرفع من الضرائب وبأي نسب وهل يرفض اقتصاد السوق أم لا ؟ وما هي الاستتباعات العملية لإقراره بمقتضيات اقتصاد السوق أو رفضه وكذا الأمر لمن يعتبر أن الحل هو في خوصصة المؤسسات العمومية وفي انسحاب الدولة من كل القطاعات التنافسية فتراه يركز فقط على حوكمة القطاع العام ويؤكد انه ليس من أنصار التفويت ولا يجرؤ أصحاب هذا الرأي على الإفصاح عن تصورهم للعلاقات الاجتماعية وخاصة مع المنظمة الشغيلة الخ ..
وقد يعود هذا إلى أحد أمرين : إما عدم استعداد أحزاب كثيرة للحكم فتراها تكتفي بالشعارات العامة ولا تكلف نفسها مشقة تفصيل وتوضيح أفكارها أو أننا أمام صنفين من المخاوف : الخوف من الوضوح على تماسك الصفوف الداخلية لحزب ما والخوف من الوضوح أمام الناخبين ..
وفي المحصلة عندما تتشابه الشعارات العامة ماذا سيميز إذن جل هذه الأحزاب عن بعضها البعض ؟ الاتهامات المتبادلة تصبح هي عنصر التمييز الأساسي في غياب المشاريع الواضحة والمواقف الشجاعة ..
فالأخلاق في السياسة لا تعني فقط نظافة اليد ونقاء الضمير -وهذا ضروري – بل وكذلك وضوح الأفكار والمقترحات والشجاعة في عرضها بكل تفاصيلها على المواطن / الناخب ..
أخلقة العمل السياسي ضرورية للبلاد.. ولكن لا ينبغي ان ننطلق من جزئيات السبّ وننسى اللبّ ..