تغول المجتمع على الدولة بما يعسّر كثيرا من عملية الحكم بمفهومه العام جدا أي تدبير شؤون الناس ..
ولكن حتى لا يبقى نظرنا مقصورا على تجربتنا المخصوصة نلاحظ أن صعوبة حكم الدول وتقلص هامش تدخل السياسي فيها أضحى اتجاها عالميا سائدا في جل الديمقراطيات منذ عقدين على الأقل بما جعل أجزاء متعاظمة من الرأي العام في جلّ الدول، كبيرها وصغيرها ، تعتقد بأن دولها قد فقدت السيطرة على الفعل وأن الماسك بخيوط اللعبة هي قوى فوق دولية كالاتحاد الأوروبي بالنسبة لدوله الأعضاء أو منظمة التجارة العالمية أو الأمم المتحدة أو صندوق النقد الدولي أو السوق المالية العالمية أو صناديق الاستثمار ..
فالعولمة لم تشمل فقط بلدان الجنوب وشعوبها بل كل بلاد الدنيا بما يفسر القوة المتفاقمة للتيارات الشعبوية التي تدعي استرداد السيادة ومحاربة الحكومات المعولمة ..
وفي ذات الوقت تنمو حركات احتجاجية من صنف جديد آخرها حركة السترات الصفراء في فرنسا وهي حركات تشكك في جوهر الديمقراطية التمثيلية وتعتبر أن هنالك نوعا من تحالف النخب السياسية والمالية والإعلامية ضد الشعب لمزيد تفقيره وتجويعه لفائدة الرأسمال المالي العالمي ..
نرى في تونس نفس هذه العوامل ولكن بصفة أكثر تكثيفا في الزمن والمجال .. أي أننا أمام كم هائل من المطلبيات الاجتماعية لم تستثن أية مجموعة أو فئة من المجتمع من المعطلين عن العمل إلى اكبر أثرياء البلد مرورا بكل المهن والجهات والهيئات والكل يطالب بتحسين الأوضاع أو بالحط من الضرائب والكل يتهم هذه الحكومة وكل سابقاتها بالعجز والأيادي المرتعشة هذا إن لم يكن بالعمالة للأجنبي والخضوع لاملاءات صندوق النقد الدولي. وفي المقابل لم تعد تملك الحكومات المتعاقبة منذ هذه العهدة الانتخابية على الأقل لا حل العصا الغليظة ولا حل الشراء الفعلي للسلم الاجتماعية ،أي أننا أصبحنا أمام حكومات – وهذا الأمر سيستمر في الخماسية القادمة – غير قادرة لا على اللجوء إلى أدوات الاستبداد ولا كذلك التعويل على إمكانيات الدولة الريعية التي لا تملكها تونس أصلا وحتى بعض المخزون الذي كان لدى البلاد من عملة أجنبية إبان الثورة قد نفد جزء هام منه مما جعل كل إنفاق اجتماعي كالزيادة في أجور الوظيفة العمومية مثلا يصاحبه ضرورة الترفيع في الأسعار أو في الاتاوات أو في نسبة الفائدة المديرية أو في التداين أو في كل هذه العناصر مجتمعة ..
أي أن الدولة التونسية بصدد فقدان آليات الحكم الكلاسيكية المتمثلة رمزيا في العصا والجزرة وهي وإن ربحت شرعية الصندوق ، الغائبة عن الدولة الاستبدادية،ولكن يبدو أنها غير كافية لتركيز مقبولية دنيا لدى المجتمع وحتى عندما أردنا تعزيز الشرعية الانتخابية بالشرعية التوافقية لم نضف شيئا جديدا إذ ما يطالب به الجميع اليوم هو شرعية الانجاز ويمكن أن نقول شرعية الانجاز السريع والذي يغير بصفة ملموسة حياة الناس ..ولكن هذه الشرعية لم تتمكن أية حكومة من اكتسابها نظرا للبون الشاسع بين زمني السياسات العمومية والانتظارات الشعبية فترى الحكام يعزفون بصفة إرادية أو لا إرادية عن كل الإصلاحات التي لا تؤتي بأكل واضح على المدى المنظور ودخلنا في دائرة مفرغة تبدأ بمشهدية القرار وتنتهي بمشهدية الاحتجاج..
هل أن حكم البلاد وإصلاحها أضحى أمرا مستحيلا ؟ لا وألف لا ولكننا لم نجرب إلى حد الآن الطريق الوحيدة المؤدية لشرعية تجمع بين الانتخاب والأداء وهي وضوح التشخيص والبرنامج الإصلاحي الملائم وعرضه على المواطنين ثم الالتزام بتطبيقه لو حظي هذا البرنامج بثقة الناخبين. ولكننا في تونس اخترنا إلى الآن أن نعد بالجنة في الحملة الانتخابية ثم نطبق سياسة الصراط المستقيم بعدها اعتقادا من كل المترشحين أن خطاب المصارحة لا يجلب نصرا انتخابيا ..
يبدو أن الانتقال الديمقراطي قد فقد الكثير من ألقه مما يجعل الطبقة السياسية اليوم أمام امتحان عسير لان خسارة خماسية أخرى قد تأتي على الأخضر واليابس ..
ولكن ينبغي ان نقول أيضا ان المستقبل القريب بيد المواطن / الناخب فهو الذي سيختار اغلبية الحكم وعليه ان يختار البرنامج الأمثل والفريق الأقدر ، أما لو اتبع السراب والوعود الوردية والتصويت الزبوني أو على الهوية فانه يصبح مشاركا فعالا في تعكر وضع البلاد..
لا ينبغي ان يهوّن أحد من صعوبات حكم بلاد في مرحلة انتقال ديمقراطي ولكن مازاد من صعوباتها وجود حكومات تعد بما لا تملك وتطبق برنامجا لم تعرضه على الشعب ..
بعد حوالي خمسة أشهر ونصف يذهب التونسيون مجددا لصناديق الاقتراع لاختيار برلمان جديد في انتخابات لن تكون كسابقاتها لان البلاد لا تتحمل خماسية جديدة من التجربة والخطأ.