العالم وهي تحتد وتخفت بقدر منسوب التوتر العام في المجتمع .. ولكن هنالك فرق بين حدة الديمقراطية التي لا تتناقض ومبادئ الجمهورية والتهشيم المتبادل للدولة ولمؤسساتها ولقوام عيشنا المشترك .
لا جدال بأن أشكال ممارسة الديمقراطية قد تحولت كثيرا وأصبح مطلب التشاركية قويا أي أن الديمقراطية لا تقتصر فقط على انتخابات دورية تنشأ عنها مؤسسات منتخبة بها أغلبية وتعارضها معارضة داخل مؤسسات الدولة إلى حدود الانتخابات القادمة التي تثبت نفس الأغلبية أو تعاقبها فيحصل التداول .
اليوم المواطنون يريدون المشاركة اليومية في القرارات ويحتجون على بعضها ولكن لابد من البحث عن التوازن المطلوب بين المشاركة حتى في صورها الاحتجاجية الاشتغال الأمثل لمختلف مؤسسات الدولة..
ما يحصل في تونس اليوم في أحيان كثيرة لا يراعي هذا التوازن المطلوب فيتحول والاحتجاج إلى تعطيل للمؤسسات ، بمفهومها العام، بل ويعتبر هذا التعطيل نوعا من النضال المشروع من أجل تحقيق مكاسب فئوية ..
ما حصل يوم أمس نموذج صارخ على ما نقول .. قطاعات تحتج في الشارع لتعيق حركة المرور وقطاعات تحتج داخل قبة البرلمان لتعطل جلسة حوار بين الحكومة والنواب كان ينتظرها الجميع حول مشاكل قطاع الصحة خاصة بعد وفاة 15 رضيعا منذ أسابيع قليلة ..
الإشكال لا يكمن في الاحتجاج بل في تعطيل هذا الاحتجاج ليوم عمل للحكومة وللبرلمان .. ولنأخذ مثال احتجاج نقابة إجابة حول تجميد أجور بعض الجامعيين نتيجة إضرابهم الإداري وامتناعهم عن إعطاء الفروض ..
الإشكال الآن لا يكمن فقط في شكل هذا الاحتجاج وفي شرعيته – وفي هذا يقال كلام كثير – ولكن هل يحق لنقابة مهما كانت تمثيليتها أن تحتج داخل قبة البرلمان دون أن تكون مدعوة لذلك وأن تمنع نشاط البرلمان تبعا لذلك ؟ ! وقبل ذلك هل يحق لبعض الأساتذة الجامعيين أن يقايضوا بعض المكاسب المادية والمعنوية بامتحانات الطلبة ؟
للأسف جل القطاعات والمصالح أي قبائل بلاد تونس تعمد كلها إلى الضغط أو الابتزاز بين الحين والآخر .. بل ونجد أحيانا أن أجهزة الدولة تشتغل بدورها بمنطق القبائل المنقسمة بدورها إلى بطون والبطون المتفرعة إلى افخاذ.. فالصراع بين رأسي السلطة التنفيذية هو صراع بين قبيلتين تعتمدان على الكرّ والفرّ ومبدإ السلم داخل القبيلة والحرب خارجها ..
ولو وسعنا النظر قليلا لوجدنا أن جل النقاش الدائر الآن ونحن على مشارف انتخابات هامة إنما يتمحور حول تخوين واتهام الخصوم بالعمالة أو الشعبوية أو الفساد أو الاستبداد .. كل ذلك دون أن يتمكن المواطنون / الناخبون من تمييز الصحيح من السقيم من الأخبار والمعطيات ودون أن يخاطبهم احد حول مشاكلهم ومشاكل البلاد والحلول الممكنة للخماسية القادمة ..
هنالك شيء ، غير صحي في وضعنا اليوم ، شيء بصدد التعفن والتعمق مما أدى إلى كفر جزء من مواطنينا بالديمقراطية وبكل مخرجاتها .. والمفارقة الكبرى أن المستفيدين غدا من هذا التعفن لن يكونوا بالضرورة اكبر المغتاظين اليوم ..