ولعل مظهرها الأخطر كان اعتداء بعض المواطنين في سيدي بوزيد على الاجتماع الذي نظمه الحزب الدستوري الحر والذي كشف عن ضعف استباق أجهزة الدولة للانبجاس المتوقع للعنف في المجال العام .
وهنا تنتابنا الدهشة من تعامل السلط الأمنية ثم القضائية مع ما جرى في سيدي بوزيد وتلك المقاربة الغريبة في تبرير غياب التتبع القضائي نظرا لعدم وجود شكاية من أحد والحال أن العنف كان في الفضاء العام وحصل اعتداء على الأفراد والممتلكات وهذا لوحده كاف لتحريك الدعوى العمومية دون انتظار تظلّم من أحد..
ولكن رغم الخطورة الكبيرة للعنف السياسي فهو ليس الخطر الوحيد على الانتقال الديمقراطي في البلاد.. فنحن نشاهد منذ أشهر اشتغال مطابخ إعلامية سياسية خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي عمادها الترويح لأخبار زائفة ومحاولات تحطيم هذه الشخصية أو تلك متغذية من مناخ الارتياب العام السائد بالبلاد ومغذية له كذلك إلى درجة أصبح يعسر معها تمييز الصحيح من السقيم من الأخبار والخطر هنا يتجاوز مجرد رواج أخبار زائفة إلى وجود خطط متنافسة تهدف جميعها إلى خلط الأوراق والتأثير على الناخبين بواسطة خلق مناخات نفسية معينة ..
ومن المخاطر الواضحة منذ الآن تنامي الخطابات الشعبوية العدمية وما يتبعها من تسطيح للنقاش يقصد به تسطيح للوعي والاستعاضة عن البرامج والأفكار بهويات متصارعة جديدة بعضها يدعي تمثيل الثورة وبعضها الآخر يرى فيها كل الشرور والآثام ، وهذا ما سيدفع بنا دفعا إلى حملة حادة حول هويات متناقضة ..
وينتج مباشرة عن تنامي الشعبوية ارتفاع منسوب العنف اللفظي في الساحة السياسية ليصبح الصراع فيها بين أعداء يتبادلون الاتهام بالخيانة والفساد لا متنافسين حول أفكار وبرامج.. لكي يبدو الأجدر بالحكم هو الأقدر على إسكات الخصم ..
كل هذه المناخات لا تنبئ بمناخات انتخابية سليمة خاصة إذا ما أضفنا إلى كل ما سبق بداية تدفق المال السياسي الداخلي وخاصة الخارجي في تحيل واضح على القانون المنظم للحياة الحزبية بالبلاد مستغلا ثغرات واضحة في قانون الجمعيات الذي يسمح بالتمويل الأجنبي لها ولكنه يمنعه مطلقا على الأحزاب مشاريع فنتج عن ذلك مشاريع سياسية اليوم ولكنها بيافطة جمعياتية..
وهذه المخاطر مجتمعة لا تنال فقط من المسار الانتخابي عبر التأثير على الرأي العام وإرادة الناخبين ولكن بالأساس على ما بعد الانتخابات بإفرازها لبرلمان متذرّر ولا يتوفر على أغلبية واضحة للحكم بما يؤدي بنا إلى أمرين أحلاهما مرّ: أزمة مؤسسات واستحالة وجود أغلبية فانتخابات جديدة بعد أشهر قليلة في مناخات قد تكون أسوأ مما نحن بصدد عيشه او وجود أغلبية تكتيكية قادرة على إحراز ثقة المجلس ولكنها غير قادرة على الحكم بمعنى على قيادة إصلاح فعلي وحقيقي تحتاجه البلاد..
عندما نسعى الى إعمال العقل في هذا اللجاج العام ندرك بيسر بأن بلادنا لن تتمكن من تجاوز أزماتها المتعددة دون عمل إصلاحي في العمق يشمل كل منظوماتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية كما يشمل أيضا منظومة القيم التي تهيمن اليوم على مجتمعنا ..
والسؤال من يستطيع القيام بكل هذا أو على الأقل وضع البلاد على سكة الإصلاح ؟ والجواب بسيط هو الحزب أو الأحزاب أو الائتلافات القادرة على طرح مشروع إصلاحي إبان الحملة الانتخابية يحظى بثقة أغلبية التونسيين بعد نقاش عام في عمق الأشياء وجزئياتها أيضا ثم يكون التفويض الشعبي للفائزين تفويضا ببداية التطبيق أما لو كان جوهر الحملة صراع
الهويات متبوعا بعنف لفظي وبدني وممولا من جهات مشبوهة وغير شفافة تكون البلاد قد خسرت خماسية قادمة بعد ان تأكد أنها قد أضاعت وقتا طويلا خلال كل هذه السنوات التي أعقبت الثورة ..
والسؤال الوحيد الذي ينبغي ان يجيب عنه الجميع : هل بإمكان تونس التضحية بخمس سنوات أخرى ؟
ذلك هو السؤال ..