التونسيون وزمن العيش في الديمقراطية «زعمة البارح خير»؟ !

مع كل خبر سيء يشتد قنوط التونسيين ويكبر يأسهم ويتبرّم بعضهم (ولعل أكثرهم) بالثورة وبمن تسبب

فيها وبمن جاءت بهم إلى دفة الحكم تحت شعار «البارح كان خير» وأن البلاد لم تجن شيئا من هذه الديمقراطية المزعومة سوى الخراب والدمار والفساد والإرهاب والتسيب والتداين والبطالة ..
فمع الاستبداد حصل قمع للحريات ولاشك ،وخاصة لحريات المتسيسين والحقوقيين ،ولكن كانت هنالك دولة وامن ونمو اقتصادي .. هكذا يلخص هذا الجزء من التونسيين الوضع العام بالبلاد قبل الثورة ..
والسؤال هنا هل كان وضعنا، فعلا، أفضل أم أننا نلقي نظرة الحنين على ماض ذهب متأثرين بوقع الكوارث شبه اليومية التي تعيشها البلاد ؟
مرت ثماني سنوات على سقوط نظام بن علي وبمرورها ضعف كثيرا ذلك الإجماع الأولي على مساوئه وفساده ليتسلل إلى الأذهان بعد كل إخفاق أن البلاد كانت رغم كل شيء «ممسوكة» قبل 2011 وأن الطبقة السياسية التي جاءت بها الثورة هي سبب الأزمة والبلية..
ولكن ما تنساه ذاكرتنا الحية أننا نلقي نظرة إجمالية على الفترة السابقة دون قدرة على تحديد معالمها الأساسية.. وننسى أن عموم التونسيين لم يكونوا مطلعين على شيء يذكر مما يحصل في البلاد إلا في السنوات الأخيرة لحكم بن علي وبحكم انحسار جدار الخوف وتسلل بعض أخبار القصر والعائلات المنتفذة .. وحتى المسيسين منا كانت معطياتهم على البلاد عامة وجلها مبني على إشاعات أو جزئيات او نوادر القصر ..
لقد كانت البلاد كتابا مغلقا لا يفتح لأحد ولا يكاد يتسرب منه إلا النزر القليل من الأخبار فيخيل إلينا اليوم عندما نلقي نظرة ارتدادية بأن البلاد كانت سليمة من الإرهاب والفساد – باستثناء – فساد العائلات الملتصقة بالقصر – والتسيب والانحراف ..
ولكن التفحص المتأني لما نملكه اليوم من معلومات ومعطيات عن وضع البلاد آنذاك يبين بوضوح بأننا كنا إزاء سلامة الواجهة ليس إلا فرغم القبضة البوليسية حصلت عمليات إرهابية مدوية كتلك التي استهدفت الغريبة في جربة 2002 والتي مازلنا نعاني من بعض اثارها الى اليوم على سياحتنا وعملية سليمان بعدها بسنوات قليلة والتي لم تكشف فيها هذه المجموعات الإرهابية المسلحة إلا بمحض الصدفة بالإضافة إلى سجن ما يفوق عن الألف شخص بتهمة الانتماء إلى جماعات إرهابية .. وما نقوله عن الإرهاب يصلح في كل شيء ، فبطالة أصحاب الشهادات العليا قد برزت بصفة قوية منذ أواسط العشرية الماضية كما أن البطالة كانت مرتفعة (%13) ورغم كل آليات التشغيل الهشة فإن اقتصادنا بدأ في التراجع خلال السنوات الأخيرة من نظام بن علي بما أدى بالخبراء الدوليين إلى القول بضرورة إيجاد منوال تنموي جديد لأن المنوال السائد آنذاك لم يعد بإمكانه خلق النمو الضروري للبلاد..
أما التراجع المذهل للمنظومة الصحية والتربوية والخدمات العمومية فقد لامسنا كلنا بعض مظاهره، ولكن الدراسات الدولية تبين مدى عمقه فتسرب أكثر من مائة ألف تلميذ من مختلف المستويات التعليمية ليس وليد الثورة بل يكاد يكون هو القاعدة طيلة حكم بن علي والضعف الكبير للمنظومة التربوية تؤكده كل الدراسات الدولية وخاصة ما كانت تقوم به منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) في تحقيقاتها حول مستوى مكاسب التلاميذ في سن 15 سنة والتي بينت منذ أول مشاركة تونسية سنة 2003 أننا متخلفون جدا عما يحصل في العالم المتقدم وفي الدول الآسيوية الصاعدة..
ويمكن أن نعدد تردي الخدمات الصحية والكوارث التي كانت تحف بها ولكن دون أن يعلم بها كل الناس بل حتى المعنيين بالأمر لم يكونوا ليقدروا على التظلم أو حتى مجرد الشكوى..
فغياب الخبر لا يعني مطلقا أن الأمور كانت على أحسن ما يرام ولكن كانت تحت حجاب سميك لا يقدر على النفاذ إليه إلا القليلون
وما لا يريد التفكير فيه بعض الحالمين بالعهد القديم أن النظام قد دخل في منعرج جديد وخطير في السنين الأخيرة لحياته وهي مسألة توريث حكم بن علي إما لصهره أو لزوجته وان هذا الانغلاق السياسي لمنظومة الحكم آنذاك كاد يؤدي بالبلاد إلى المجهول خاصة وان وتيرة الاحتجاجات بأنواعها بدأت تتعاظم لاسيما مع تلك الأحداث التي شهدها الحوض المنجمي في السداسية الأولى من سنة 2008.
لا ندعي بالطبع ان الأمور قد تحولت كلها إلى الأفضل بعد الثورة ولكن الفرق الجوهري هو ما بين شعب كان لا يشاهد حتى جنازة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة على تلفازه ويرى بدلا عنها شريطا وثائقيا عن الأسماك وبين شعب لا تغيب عنه واردة ولا شاردة وهو يتلقى في الساعة كما ضخما من الأخبار والمعطيات والتحاليل والمواقف والإشاعات والأخبار الكاذبة عبر كل الوسائط التقليدية والمستحدثة .. هذه الكثافة الإعلامية الحينية والمتعددة الوسائط هي التي تميز بالأساس ما قبل الثورة وما بعدها .. تصوروا للحظة واحدة لو أن قصة سفاح نابل حصلت اليوم ، أو موت بعض المتفرجين في مهرجان بصفاقس ؟ هذا دون الحديث عن صفقات أصهار الرئيس وإخوته وزوجته ..
أو لنتصور أن الإعلام بمثل هذه الحرية والتعدد والتنوع والانفلات في سنة 2005 ، هل كان سيصمد نظام بن علي أسبوعا واحد أمام جحافل الفضائح والفساد واستغلال المال العام بالإضافة إلى العنف اليومي والمصائب المتفرقة ومظاهر الجوع والفقر في الأرياف ؟ !!
يريد أن يوهمنا المتحسرون على نظام بن علي بان البلاد كانت في جنة فقط لأننا لا نملك صورا أو شهادات أو ملفات عما كان يحصل آنذاك ؟ !
لاشك بأن جوانب من الحياة العامة واليومية للتونسيين قد ساءت منذ الثورة وخاصة تفاقم الإرهاب والخطر الذي يمثله على البلاد والعباد ومظاهر أخرى من التسيب والإهمال والفساد ومن الصراع المحموم على السلطة وهزال أداء بعض السياسيين ومشاحناتهم المقرفة ، كل هذا صحيح ومسؤوليات الحكومات المتعاقبة قائمة لا ريب فيها ، ولكن يملك المواطن (ة) اليوم حق التقييم والتقويم والاحتجاج والرفض ولدينا انتخابات دورية يمكننا من خلالها التعديل والتصحيح ..
صحيح أن حق المواطنة مازالت تعوزه مقومات عدة منها الموروث ومنها الاجتماعي ومنها النفسي ولكن دخلنا مرحلة المواطنة على كل حال بعدما كنا رعايا لا حول لنا ولا قوة..
وما يبرهن على تفوق النظام الديمقراطي حتى في مرحلته الانتقالية المتعثرة كما هو الشأن عندنا على النظام التسلطي هو قدرته على استيعاب الأزمات وذلك لأنه يسمح بحرية التعبير عنها دون قيد او شرط وهذا التعبير هو احد عناصر التهدئة على عكس ما يعتقد ..
التونسيون ليسوا متعودين على العيش زمن الحرية والديمقراطية والاعلام المفتوح..
الديمقراطية لا تتماشى مع اليقين الهادئ بل مع الشك والتمرد والارتياب والعيش زمن الديمقراطية فيه هزات واضطرابات وشيء من الخوف ولكن الطمأنينة الزائفة زمن التسلط زائلة ..
تعيش تونس حالة من الإحباط لا يناقش فيها احد ولكن كل تونسي (ة) يملك اليوم تغيير المعطيات وكل تونسي –(ة) يمكنه ان يسهم من موقع الفعل في مستقبل بلاده بغض النظر عن تعثرات اليوم..
العيش زمن الديمقراطية ينتابه القلق ، ولكنه حياة فعلية وكرامة رمزية..
تونس لم تكن أفضل في الأمس وستكون أفضل بكثير في الغد..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115