أصوات نسائية. ولكنّ هذا الحرص المناسباتي لأغلب الإعلاميين والإعلاميات والناشطين في المجتمع المدنيّ على تشريك النساء، معبّر عن حرج لا مراء فيه .فمحاولة نفي تهمة الإقصاء عن الإعلام وعن بعض الأحزاب والجمعيّات،من جهة، وإثبات البعد «الإدماجي التشاركي» من جهة أخرى، تظلّ مفضوحة إذ لا تخرج كلّ البرامج «الاحتفائية المناسباتية» عن تصوّر يرى أصحابه أنّ تخصيص يوم في السنة للاستماع إلى «الثرثرة» النسائية’’ كاف ومن ثمّة تُقدّم منابر نسائية ويُمنح المصدح للنساء ...وهي ممارسات تتماهى مع برامج تريد أن تسجن النساء في اهتمامات محدّدة: فقه النساء، وجمالك، وسيّدتي، والطبخ... وغيرها. فهل هذا التوجّه معبّر عن سقف طموحات التونسيّات وتوقّعاتهن؟
لا يُوّجه النقد لأصحاب القنوات والمنتجين وأصحاب/ات القرار في مختلف مكوّنات المجتمع المدنيّ فحسب بل آن الأوان في اعتقادنا، أن نضع الحركة النسائية وأداء النسويّات تحت المجهر. فمادمنا نعيب على الأحزاب عزوفها عن القيام بالمراجعات وبقاءها أسيرة الأيديولوجيات والسرديات الكبرى فإنّه يجدر بالفاعلات في المجال العامّ والمجال الأكاديمي أن يكنّ المبادرات وأن تمارس فئة منهنّ قليلا من النقد الذاتي ‘تصحيحا’ للمسار أو تأمّلا في المفارقات والأخطاء علّنا نعتبر ونطوّر تدبيرنا للنضال ... فآلية المحاسبة لا تخصّ العمل السياسيّ وحده بل هي براديغم جديد في الفعل النسائيّ.
اعتدنا الحديث عن انجازاتنا وتاريخ نضالنا وتعداد صور تميّزنا وقلّما اعترفنا ب’إخفاقاتنا’ وكأنّ تمركزنا على ذواتنا لا يسمح لنا برؤية التقصير والتناقضات و.. فأسطرة المرأة التونسيّة وتموقعها في دائرة «الاستثناء» جعلاها عاجزة في أغلب الأحوال، عن فتح «الصندوق الأسود» والجهر بما يقال في الكواليس ولا يخرج للعموم. فما تهمس به البعض هو استشراء الممارسات الدالة على طغيان الهيمنة في صفوف النساء وكأنّ نقد الهيمنة الذكورية أفضى على مرّ السنوات، إلى استبطان استراتيجياتها. وهي هيمنة تتجلّى في مستوى الجمعيّات العريقة التي تسعى إلى احتكار تمثيل الحراك النسائيّ والسيطرة على الجمعيّات الحديثة النشأة ، وكذلك في مستوى بعض الشخصيات الرائدة التي تهيمن على الإنتاج البحثي فلا تعترف إلاّ بحضور الجيل المؤسّس وكتاباته ... أفلم يحن الوقت لتفكيك الهيمنة النسائيّة واعتبارها هي أيضا جديرة بالدراسة؟
نحلّل أشكال التمييز والإقصاء والاستبعاد فننسبها للآخر الذكوريّ فنفضح مظاهر التحيّز، واستراتيجيات العزل والعنف المسلّط على النساء وقلّما تجرّأنا على تفكيك تجليات إقصاء النساء للنساء في مجال المعرفة والعمل، ونزوع بعضهنّ إلى ممارسة العنف الرمزيّ تماهيّا مع الأيديولوجيا الذكوريّة. فكم من ندوة وكم من مشروع وكم من مؤتمر كان معيار تشريك النساء فيه قائما لا على الكفاءة والاختصاص بل على «التآزر النخبويّ». فأن تكوني من «الداخل» يفتح أمامك السبل للبروز ولكن متّى كنت من «خارج» الدائرة المقرّبة حكم عليك بالعزل. ومادمنا نعيب على حزب النهضة العمل وفق قواعد «التنظيم» فمن باب أولى أن نقاطع الممارسات التي تؤبدنا في دائرة «التنظيم المغلق».
نتبنّى قضايا العدالة الاجتماعيّة ونزعم أنّنا وهبنا حياتنا لمقاومة كلّ أشكال التمييز ولكن مع ذلك لا تتوانى بعض رفيقاتنا عن التعبير عن استغرابهنّ من لباس هذه، وطريقة كلام الأخرى، فيتمّ التصنيف والفرز وفق الطبقة والسنّ والانتماء الجغرافي والأيديولوجيا... من قال إنّ «الحقرة» قد انتفت فبعض من ممارسات «البلديات» وبنات العائلات الكبرى تشير إلى عسر التخلّص من الموروث الثقافيّ الذي تتناولنه بالتحليل في خطاباتهن، وتلك مفارقة عجيبة.
نحارب حركات الاستعمار والاستشراق الجديد ونفتخر بحسّنا الوطنيّ ونتخّذ من علمنا وشاحا يُصاحبنا في احتجاجاتنا ومع ذلك تُجسّد بعض رفيقاتنا «العقليّة البيضاء» فتساهمنّ في بنائها اجتماعيّا وثقافيّا. فللفرنكوفونيات المجد ولغيرهنّ النسيان، وللعلمانيات آليات الفهم ولغيرهنّ سوء الفهم، وسوء الإدراك... أفما آن الوقت للتحرّر من عقدة البياض ومن تبعاتها؟
نفنّد مزاعم الذين يسيّجوننا في دائرة الاختلاف البيولوجي فنبيّن تهافت البنيان ولكنّنا نتغاضى عن عسر تقبّلنا لاختلاف بعضهنّ عنّا موقفا وآراء وتصوّرات ومرجعيّات... نريد منهنّ أن يشبهننا أن يقبلنّ تعاملنا معهنّ على النحو الذي نريد وأن يسقن كالقطيع . ويتعيّن في نظرنا،على من قاومن التنميط ونسق التمثيل الأحادي أن يعزفنّ عن تكريس الامتثالية والتنميط القسريّ.
ستقول أغلبهنّ: هذا عيد بطعم الحنظل وسيناصبننا العداء ولكننّا نعتقد أنّه حريّ بمن أنجزن تحوّلات ثوريّة في التشريعات أن يلتفتن إلى المراجعات والنقد الذاتيّ إذ لا بدّ من تفكيك أطروحات الحركة النسائية التونسيّة، وإجراء مناقشات عقلانية عميقة حول أداء الأجيال المختلفة من النسويات، وبنية العلاقات التسلّطية، ورهانات الإقصاء وعسر إدماج التنوّع والتعدديّة في الحركة النسائية التونسيّة ....
وكلّ عامّ وأنتنّ جريئات على مواجهة الذات بعيدا عن مساحيق التجميل وأساليب المجاملات وممارسات النفاق.